تنظيرٌ بلا تطبيق وصناعة الرأي مهمة خطيرة تتطلب المهنيَّة والعلميَّة

ريبورتاج 2022/04/05
...

 عدنان أبوزيد
تعتمد الدول الكبرى في بناء ستراتيجياتها في مجالات الأمن والاقتصاد والسياسة على مراكز التفكير، tanks think، لما توفره من تحليل، وخطط، تسهم في إنجاح السياسات نحو تأمين مستقبل واعد للشعوب، وفي الولايات المتحدة الاميركية، على سبيل المثال لا الحصر، بلغت أعداد مراكز البحوث في ثمانينيات القرن الماضي نحو الألف، لتسهم بشكل فعال في الخطط والبرامج الستراتيجية، وظهرت في العراق بعد العام 2003، الكثير من مراكز البحوث والتحليل، لكن السؤال فيما إذا الدولة العراقية استطاعت تسخيرها لصياغة برامجها وسياساتها، أم بقي دورها تنظيرياً، بلا تنفيذ لنتائج بحوثها على أرض الواقع، 
 كما يبرز السؤال فيما إذا المحلل العراقي في جميع المجالات، تمكّن من فرض نفسه، كصانع رأي، ومفسر للكثير من الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفيما إذا تلقى الدعم اللازم من الجهات الحكومية المعنية لكي يقوم بدوره على أكمل وجه.
يقول عضو رابطة المحللين السياسيين الدوليين قاسم سلمان العبودي لـ “الصباح”، إن “هناك الكثير من المراكز البحثية الإعلامية والستراتيجية، لكنها غير ذات فائدة في صناعة رأي عام شعبي، رغم رصانة هذه المراكز ومهنية القائمين عليها، بسبب السياسات الخاطئة للحكومات التي تعاقبت على إدارة الدولة”، معتبراً أن “فشل الحكومات لا يعني وهن المحللين السياسيين وعدم قدرتهم على استشراف القادم”.
يرى العبودي أن “الفوضى السياسية التي تعصف بالبلاد منذ العام 2003 قد أسهمت بقدر معين في عدم الإصغاء للقائمين على المراكز البحثية وعدم سماع ما يقولونه”، مشيراً إلى أنه “في كل مكان في العالم هناك رديف يسهم بطريقة وأخرى في صناعة القرارات المختلفة إلا في العراق الذي تعصف به الولاءات الحزبية التي أبعدت الباحث والمحلل، فضلًا عن عدم دعمه مادياً أو معنوياً”.
 
نجاح وإخفاق
وتبرز في إعلام الفضائيات، موجة تحمل على ظهرها أعداداً كبيرة من المحللين السياسيين، الذين اثبتوا حضوراً واضحاً، في الحوارات وتحليلات الأخبار.
وليس الإعلام العراقي وحده في الظاهرة، وذلك لأنّ الإعلام العربي، في برامجه السياسية، يُبرز منظرّين وباحثين، وراصدين للأحداث، بينما بات واضحاً أنّ هناك تحليلاً سياسياً مؤدلجاً، وموجّه الأغراض، وفي الجانب المقابل، يلمح الراصد، تحليلاً مهنياً، مستقلاً،
وعلمياً.
 
بحوث على الرفوف
يتحدث رئيس مجموعة التحليل السياسي، محمود الهاشمي لـ «الصباح» عن أن «الدولة لم تستفد من مراكز البحوث والدراسات التي تنتج بحوثاً ودراسات مهمة ولكن توضع على الرفوف من دون تنفيذ».
ويتابع: الأحزاب الحاكمة هي من تصنع الحكومات، وفي العراق هذه الأحزاب لا ترى في النخب المثقفة من كتاب ومحللين سياسيين سوى جمع يملأ فضاء الإعلام والصحف لسد الفراغ، أو وسيلة لمواجهة الخصوم السياسيين، وليس لتطوير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي». 
ويعتبر الهاشمي أن «الزيادة الملحوظة في أعداد المحللين السياسيين، فرضتها الظروف ومنها عدم وجود مؤسسات تنظم هذه النخب المثقفة لخدمة البلد، وعدم وجود مقاييس محددة لتعريف المحلل السياسي، فضلاً عن أن المؤسسات الإعلامية تابعة للأحزاب وغير معنية بالنوع وما هي إلا صوت يهتف لها».
وبحكم تجربته البحثية والأكاديمية والإعلامية، يقول الهاشمي إن «مراكز البحوث في العراق لم تصبح وسيلة لتطوير الواقع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وآلت البحوث والاستطلاعات، والاستنتاجات، إلى مجرد عناوين وأسماء في بلد أشد ما يحتاج فيه إلى حكمة الحكماء، وآراء الباحثين، وإحصائيات المراكز المتخصصة».
 
حسب الطلب
يتحدث الكاتب والصحفي زيد الحلي لـ «الصباح» عن «أعداد هائلة من القنوات التلفازية، والإذاعات المحلية التي تسبح في الأثير العراقي، وبسبب كثرة البرامج (الحوارية) و (النشرات الإخبارية) فإنها تسعى إلى سد الفراغ المطلوب، وليس غريباً، أن تشاهد (محللاً) يظهر على شاشات عدة، في يوم واحد».
ويستطرد الحلي في الحديث: «ليس غريباً، أن يشبه المشاهد (بعض المحللين) بأنهم (تسونامي) أي مثل الموج العاصف، كونهم يعبرون عن حالة مزاجية جيدة في أوقات تريدها هذه القناة، وسيئة في أوقات أخرى ترغب بها القناة الثانية، ونحن نشاهد هذا المحلل أو ذلك، وندرك ببساطة شخصيته المزاجية المقحمة عليه».
يعترف الحلي بأن حديثه فيه «بعض القسوة إزاء الكثرة الكاثرة، التي تقتحم بيوتنا في المساءات، لكن هذا لا يعني عدم وجود محلل سياسي عراقي، يتسم بالموضوعية، ويكون ذا شخصية وكاريزما مقنعة لعقل المتلقي، فأنا أعرف من أثق برؤاهم وسعة فهمهم للموضوعات التي يناقشون فحواها، ويعتمدون السهل الممتنع في ايصال أفكارهم».
 
منطقة رمادية
يكشف المحلل والكاتب محمد فخري المولى لـ «الصباح» عن «النظرة من قبل السياسيين و ذوي المناصب والناجمة عن انسداد فكري لديهم تجاه مراكز التحليل والبحث، وهو أمر يجب أن يتغير وإلا فالأمر صعب»، معتبراً أن «وجود أفكار جديدة لا تناسب صاحب القرار، يرسم منطقة رمادية بل قاتمة وقد وصل الأمر إلى تجاهل كل الاسقاطات والمؤشرات للعمل السياسي والمهني لمختلف الوزارات والهيئات والجهاز الحكومي التي تؤشر وجود مشكلات حقيقية».
يوضح الكاتب واثق الجابري لـ «الصباح» بأن «الأثر السياسي انعكس مرة على هذه المراكز وأخرى على صانع القرار»، مشيراً إلى «إحاطة كل مسؤول وبدءاً من رئيس الحزب بمجموعة من المنتفعين الذين لا يسمحون لغير أفكارهم»، معتبراً أن «الدولة لم تستوعب المحللين والكتاب، ناهيك عن وجود مراكز للبحث والتحليل السياسي الذي يخص أحزاباً بذاتها أو مراكز وهمية كواجهات للترويج الإعلامي».
الباحث في الشأن السياسي والأمني عقيل الطائي يكشف لـ «الصباح»، عن أن «الحكومات بعد العام 2003، لم تستفد من مراكز دراسات وتحليلات ستراتيجية تضم النخب المثقفة والأكاديمية في مختلف الاختصاصات لرفد المؤسسات الحكومية باستشارات وأفكار تصحيحية».
 
الأدلجة
الكاتب والمحلل السياسي قاسم العبودي يشير في حديثه لـ «الصباح» إلى أن «التحليل هو شكل من أشكال العمل السياسي، والحكومات الناضجة تعتمد عليه في قراراتها»، كما يكشف المولى عن أن «غالبية الأحزاب السياسية المشاركة في السلطة تمتلك مراكز دراسات، ولكنها ليست بالمستوى المطلوب وغير فاعلة لأنها مؤدلجة».
يرى العبودي أن «غالبية الدول ترصد الأموال والدعم اللوجستي وتهيئ الظروف لإنجاح عمل المحللين، لكن التحليلات والآراء لا تؤخذ بجدية في العراق، بسبب أسلوب إدارة الدولة المرتبط برؤية مصالح الأحزاب».
وفي حين تبرز ظاهرة التحليل المسيّس، من قبل محللين يمثلون في الباطن وجهة نظر جهة معينة، فيقدمون أفكاراً وتفسيرات على وفق المطلوب منهم، مقابل ذلك، فثمة أسس إيجابية يمكن البناء عليها للتأسيس لمدرسة تحليل سياسي عراقية، واضحة الملامح.
 
دليل على الأهمية
وذكر الحاكم الأميركي المدني في العراق بول بريمر بعد العام 2003، أنه اعتمد في سياساته في العراق، على بحث أعدته مؤسسة راند للبحوث يشرح الأوضاع، والمشكلات المحتملة، وكيفية وضع الحلول لها، ما يؤكد أهمية دور مراكز البحث والتفكير في المساعدة في صناعة القرار وتحليل السياسات واقتراح الحلول. وفي أوروبا والولايات المتحدة، توفر مراكز البحث والاستقصاء، الأرضية المناسبة لصناعة القرار السياسي عبر توفيرها الغذاء المعلوماتي
اللازم.
ولا شك في أن هناك فوضى تحليل في العراق بسبب تحول البحث والاستطلاع والاستقصاء، إلى مهنة لمن لا مهنة له، وأصبح استسهال تقديم شخص ما نفسه على أنه محلل سياسي أو ستراتيجي، أمراً مألوفاً، ما يوجِب ضبط ذلك وفقاً لمعايير الكفاءة والمهنية، والأكاديمية، لأن التحليل الذي تقوم عليه السياسات ويوجّه جموع الشعب نحو غاية معينة، يشكل خطراً فكرياً، ما لم يتم إرشاده، وفقاً لمعايير قانونية
 وأخلاقية.