السيجار الكوبي سفير كاسترو إلى قلوب القادة والزعماء

ريبورتاج 2022/04/25
...

 محمد عجيل 
رغم مضار التدخين الصحية التي قد تصل إلى القضاء على الحياة، ورغم التحذيرات المستمرة من منظمة الصحة العالمية التي تؤكد تقاريرها أنه سبب رئيس لأمراض القلب والسرطان، إلا أن السيجار الكوبي تمكن من أن يضع نفسه في دهاليز السياسة، وأصبح الطريق إلى قلوب القادة والزعماء بعد تقديمه على شكل هدايا من الرئيس الكوبي الراحل فيدل كاسترو، خاصة لرؤساء العالم الثالث، ودول عدم الانحياز الذين يصطفون معه في الأفكار والرؤى السياسية.
 
وتشير التقارير الصحفية إلى أن الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر كان أول رئيس عربي يتلقى تلك الهدايا، كونه واحداً من مؤسسي منظمة دول عدم الانحياز التي شهدت أروقة مؤتمراتها خطابات رنانة لكاسترو واليوغسلافي جوزيف بروستيتو، حتى قيل وقتها أن دخان السيجار طغى على مباحثات رؤساء تلك الدول بما يتعلق بمواجهة تطلعات حلفي الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والأطلسي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق.
 
رمز
وبقيت رمزيته حاضرة في دهاليز القادة والزعماء حتى وفاة فيدل كاسترو، وللسيجار الكوبي أنواع ومواصفات قد تختلف عن بقية أنواع السجائر، كما أنه يعد الأغلى سعراً في سوق البيع، حيث لا يمتلكه سوى رجال الأعمال والميسورين، ويعد السيجار الأسود أفضل الأنواع، وهو ما كانت هافانا حريصة على تقديمه كهدايا باسم الثورة الكوبية إلى ما يسمونهم آنذاك المتطلعين لنيل الحرية والاستقلال من الدول الاستعمارية.
 
السيجار والدكتاتور
فرض فيدل كاسترو هيبته على قادة وشعوب الدول النامية، وأخذ بعضهم يعدونه مصدر الإلهام الشعبي للإطاحة بالأنظمة الفاسدة والمستعمرة، ولم يكن كاسترو يملك تلك القوة العسكرية التي تسمح له بمواجهة القوة النووية العالمية، لكنه كان يملك شيئين، الأول لحيته السوداء المتدلية، والسيجار الفخم الذي كان يضعه بين أصابعه، حتى أن الكثير من المصورين كان يروق لهم التقاط الصور له في لحظة خروج الدخان من فمه تعبيراً عن مميزات شخصيته، ما يزيد من فرص وجوده الأبدي، وما زاد من ذلك المشهد أن صديقه الثائر جيفارا الذي شكل مصدر إلهام للثائرين كان حريصاً كل الحرص على مداعبة شفتيه بذلك السيجار.
وتمكن كاسترو أن ينشر ذلك السيجار في مكاتب زعماء وقادة الدول النامية، ومنها العراق هادفاً من خلال ذلك التقرب منهم وكسبهم لصالح هدفه بمواجهة عدوه اللدود أميركا، إذ كان الرئيس المقبور صدام حسين حريصاً كل الحرص على تدخين ذلك السيجار الذي كشف عنه ذات يوم قائلاً لجمع من الصحفيين، أنه عبارة عن هدايا حرص الرئيس الكوبي فيدل كاسترو على إرسالها إليه بين فترة وأخرى. 
وكان صدام يعد تدخين ما يسمى شعبياً (الجروت الكوبي) جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، وحينما كان يستقبل ضيوفاً عراقيين أو عرباً، ويحتاج أن يفتل عضلاته عليهم، ويبرز قوته، فإنه يمسك ذلك السيجار بين يديه حتى وإن لم
يدخنه. 
كما أنه لم يكن يسمح لأحد وزرائه أو قادة حزبه إلا ما ندر باستخدام ذلك السيجار، حتى وزير خارجيته طارق عزيز لم يكن يجرؤ على ذلك، وكأنه أراد الاستفراد بهذه الميزة التي انتقلت منه إلى قادة عرب آخرين، مثل الرئيس الليبي معمر القذافي، والرئيس الجزائري هواري بومدين الذي لم يكن السيجار يسقط من يديه، والرئيس المصري أنور السادات الذي كان السيجار مكملاً لشخصيته، إلى جانب عباءته
الصعيدية. 
 
شغف وسلطة
ومن المفارقات أن صدام حسين كان يفتخر بتدخين السيجار الكوبي، حتى إنه كان بخيلاً على ضيوفه، فلم يقدم لهم ذلك السيجار، وهذا ما ذكره أمين عام اتحاد المحامين العرب مكاوي بن عيسى حينما التقاه عام 2002 قائلاً «إنه سمح لي بالتدخين لكنه لم يقدم لي السيجار الذي بحوزته رغم شغفي في ذلك الوقت باقتنائه ولو للذكرى، ومما زاد من تدخين صدام له في أيام الشدة التي كانت تحاصر نظامه، مثل تصفية معارضيه في قاعة الخلد عام 1978، وفي زمن الانتفاضة الشعبانية، وانكسار الجيش العائد من الكويت، وحضوره مؤتمرات بمعية شيوخ ورؤساء عشائر من الوسط والجنوب، وظهر أيضاً أثناء القصف الجوي الأميركي على بغداد عام 2003 وكأنه كان يريد أن يقول ما زلت موجوداً وأعيش نشوة الانتصار المزيف كما هي نشوة السيجار الذي في فمي، وما لبثت أن انتقلت هذه العادة السيئة إلى ولده البكر عدي، إذ  استخدمه هو الآخر في رسم معالم شخصيته، وفرضها على الرياضيين من خلال وجوده على رأس الهرم سواء في اللجنة الاولمبية أو اتحاد الكرة.
استثناء
ولعل من المفارقات التي طغت على السيجار الكوبي أنه لم يقع بيد قادة وزعماء يؤمنون بالديمقراطية والرأي الآخر، بل في يد زعماء طغت عليهم الصفات الدكتاتورية والتخلص من الخصوم، ولم نشاهد او نسمع أن أحد القادة الأوروبيين أو الأميركيين مسك بيده سيجاراً كوبياً رغم صفة الهوليوودية التي كانت طاغية عليهم، باستثناء البريطاني ونستون تشرشل الذي لم يفارق السيجار الكوبي فمه في جميع محاضره
السياسية.
ومن المفارقات أيضاً التي لا بد لها أن تذكر للفكاهة ما ذكره الكاتب العربي بكر عويضة، في مقال يتطرق إلى تدخين صدام حسين لسيجار كان يقدم هدايا مجانية من الرئيس الكوبي، والذي ينطبق عليه قول الشاعر (لا أسلحة عندي أهديها ولا مال ... فليسعف السيجار أن لم يسعف الحال).
 
السيجار بيد صحفيين
يبدو أن القريبين من رؤساء الدول والزعماء كانت لهم حصة من الحصول على السيجار الكوبي، ويقف في مقدمة القائمة الصحفي المصري محمد حسنين هيكل الذي كان بمثابة عراب السياسة المصرية إبان فترة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، إذ كان يقوم برحلات مكوكية بين هافانا والقاهرة، واستهوت تحركاته تلك فيدل كاسترو الذي ضمه إلى قائمة الشخصيات التي تستقبل هداياه سنوياً من ذلك التبغ المميز بنكهته وجمالية
تصميمه.
 وكان هيكل حريصاً هو الآخر على أن يظهر أثناء المؤتمرات الصحفية او اللقاءات التلفازية وهو يمسك ذلك السيجار بيده، وكان لسان حاله يقول أنا أحد زعماء العالم الثالث، ولما لا وهو يستقبل مثلهم تلك الدساتير من السيجار الكوبي سنوياً، ورغم أنه لم يكن يجرؤ على التدخين بوجه جمال عبد الناصر سواء من باب الاحترام او الخوف، لكنه كان شجاعاً في إبراز شراهته في ذلك عند حضوره مندوباً إلى دول العالم الثالث، حتى ذكر ذات مرة لا يمكنني الكتابة من دون سيجار، ولا يمكنني التفاوض بعيداً عنه ومن أبرز ما ذكره هيكل أنه دخل ذات يوم على مكتب الرئيس الأميركي جون كندي وبيده سيجار فسأله كندي عن نوعيته، فرد عليه أنه سيجار كوبي، فهل تسمح لي أن أقدم لك واحدة؟، فرد عليه كندي: لا أنا أدخن السيجار المحلي، وسياسياً غير مسموح لي أن أتقبله.
 
عادة
وشكل السيجار الكوبي في العقدين الستيني والسبعيني رمزاً للثورة والبرجوازية التي ظهرت في العالم العربي، وحرص كل من ملك المغرب الحسن الثاني، والجزائري هواري بومدين على الظهور بتلك العباءة البدوية، والسيجار الفخم، حتى أن الأخير لم يكن السيجار يسقط من يده وهو يتحدث لوسائل الإعلام، لا بل كان حريصاً كذلك في مسكه حتى وهو يحضر جلسات اجتماعات القمم العربية مثل بقية الرؤساء العرب، كما انتقلت ظاهرة المسك بالسيجار الكوبي إلى رجال الأعمال العرب، فهذا الملياردير المصري نجيب سويرس يحرص دائماً على اقتناء هذا النوع من السيجار في جميع المناسبات التي يظهر فيها، كما أن الملياردير السعودي الوليد بن طلال رغم أنه لا يدخن، وحريص على صحته، إلا أنه حريص كذلك على مسك السيجار الكوبي بيده من باب الافتخار بالنفس والتباهي.
 
سيجار السلام
من طبائع الشعوب المعتادة وتطبيقاً للبروتوكولات المعمول فيها بين الحكومات في مختلف بلدان العالم، أن ضيف الدولة الكبير تقدم له أثناء زيارته أما باقة ورد كما في أوروبا أو التمر واللبن كما في الكثير من الدول العربية، لكن في كوبا الأمر مختلف تماماً، وبعد قطيعة استمرت لأكثر من خمسين عاماً حل الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما ضيفاً على العاصمة الكوبية هافانا عام 2015، وهي الزيارة الأولى لرئيس أميركي، وكان الهدف من الزيارة إذابة الجليد، وطي صفحة الماضي، وبناء علاقات دبلوماسية جديدة، وفي تلك الزيارة حرص الكوبيون على تقديم أفضل وأغلى سيجار لديهم كهدية للضيف الذي عرف عنه أنه كان يدخن بشراهة قبل أن تجبره زوجته ميشيل اوباما على الإقلاع عنه، وتسلم الرئيس الأميركي الهدية، وقال إنه سيحملها إلى البيت الأبيض، فعسى أن تكون حمامة سلام في وضع أسس علاقات متينة بين
الدولتين. ونحن إذ ننهي موضوعنا عن السيجار الكوبي فإن ذلك لا يمنع من تقديم النصيحة في ضرورة الإقلاع عن التدخين حفاظاً على الصحة العامة.