ازدهار لشبونة السكني يحمل معه ضريبة اجتماعيَّة موجعة

بانوراما 2022/05/16
...

  بياتريس رامالهو داسيلفا
  ترجمة: بهاء سلمان
ضربت “مانويلا لوبيز” موعداً مع سوء الحظ منذ اللحظة التي بدأ  فيها حيّها السكني، بمدينة لشبونة، يجتذب مقارنات مع بروكلين، كان الزمن أواسط العقد الثاني للقرن الحالي، فقد توفر أفق للمخازن القديمة لمنطقة مارفيلا القديمة، وساكنيها من الطبقة العمالية، لفضاءات عمل جديدة، وصالات عرض فنية، ومصانع ومراكز إبداع وشركات تقنيات ناشئة، وفي سنة 2018، ارتفع معدل أسعار العقارات في الحي إلى نحو ثمانين بالمئة مقارنة 
بالعام الذي سبقه.
 
وعلى بعد مسافة قصيرة من منزل مانويلا، يجري حاليا تشييد بناية سكنية فخمة بحجم 12 طابقاً، صممها المعماري العالمي “رينزو بيانو”، تنهض من إحدى الواجهات البحرية الصناعية للمدينة، ويتراوح سعر الشقق، بعضها بشرفات تطل على نهر “تاجه”، من 500 ألف إلى 925 ألف يورو، والعديد منها تم بيعه قبل الشروع بالعمل، وتبشّر المواد الدعائية لقرية “براتا”، الواقعة على ضفاف النهر “بوسيلة عيش جديدة في لشبونة للأسر الشابة والطلبة والعمل المتنقّل والمتقاعدين، ضمن منطقة “مميزة بأجواء حيّها الحقيقية: هدوء لكن مفعم 
بالحياة”.
ولدت مانويلا، 77 عاماً، ضمن إطار معماري أكثر تواضعاً لمنطقة داخل لشبونة، وسكنت في شقة لبناية اسمها “سانتوس ليما”، تتكوّن من طابقين تعود إلى القرن التاسع عشر، إذ رعت قبلها جدتها ووالدتها أسرتيهما، وكانت “أجواء الحي الحقيقية” موجودة هنا حقا في بداية سبعينيات القرن الماضي، بحسب أحد الساكنين السابقين، حينما كان معارضو الطاغية سالازار يتجمّعون لعقد اجتماعاتهم السرية في سانتوس ليما.
 
تغيّر القوانين
وعلى مدى سنين، اعتبرت مانويلا أن استئجارها للشقة محمي من قبل قانون برتغالي يجنّب أي شخص يبلغ عمره فوق 65 سنة من الطرد إذا كان عقد الإيجار يعود إلى ما قبل سنة 1990، الأمر الذي لم تعرفه كان عبارة عن عرض لنقل الشقق ضمن البناية، والذي قبلته هي، إذ أبطل شروط عقد ايجارها السابق، وفي سنة 2017، تم تسليمها إخطاراً بالإخلاء.
على امتداد لشبونة، كانت أسعار العقارات ترتفع بشكل ضخم، وشهدت السياحة ازدهارا، ليجد الكثير من الساكنين أنفسهم بمأزق مشابه، اكتشفت مانويلا وجيرانها بعد استلامهم لتبليغات الإخلاء أن البناية قد بيعت مقابل 2,7 مليون يورو، رغم وجود 17 أسرة تسكنها كمستأجرين، بعد بضعة شهور فقط، عرضت البناية في السوق بمبلغ 7,2 مليون يورو، بترويج احتمال كونها تصلح لتكون وحدات سكنية خاصة أو فندقاً، فهي مثالية لمنطقة تتطوّر بسرعة من العاصمة وعلى ضفاف النهر، وفارغة.
لم تتمكن مانويلا من عد الأفراد الغرباء الذين واجهتهم داخل البناية منذ ذلك الأمر، فقد بدأ أشخاص مجهولون بالظهور في الممرات، مبلغين الساكنين بالمغادرة. 
وقلعت أبواب الشقق الفارغة، قبل أن تتم إعادة غيرها بعد أشهر، وبدأت أعمال البناء والترميم بدون تنبيه مسبق، ومع حماية غالبية الساكنين الكبار بالسن من الإخلاء، لجأ بعض أصحاب الأملاك إلى التنمّر ليتمكنوا من الانتفاع من حالة الازدهار، كما تقول “ريتا سيلفا”، التي تترأس منظمة حقوق الإسكان “هابيتا”. 
وتقول مانويلا وجيرانها إن ما مروا به يعد قريبا من حالة الترهيب، فالناس يتكلمون مجددا بصوت خافت وخائف، لا تساورهم الشكوك من نظام سالازار، بل من 
المالكين المجهولي الهوية ووكلاء العقارات.
 
مستقبل مجهول
تحاول بعض الأسر الباقية الصمود، لكن مانويلا، التي تعيش على راتب تقاعدي يبلغ أقل من 400 يورو شهريا، تذهب منها 147 يورو للإيجار، قد بدأت بحزم حاجياتها؛ وتقول: “أنا خائفة من اليوم الذي يظهر فيه أحدهم وسينبغي عليّ حينها المغادرة، طبيبي يقول إنني في منتصف الطريق إلى حالة الكآبة، وكل هذا الوضع يجعلني أشعر بالضآلة”.
تعد سوق العقار البرتغالي حاليا، وفقا للمحللين، أحد أكثر أسواق أوروبا “حيوية”، فالاستثمارات الأجنبية ارتفعت مع قوة تعافي الاقتصاد البرتغالي، بيد أن “الأضرار الجانبية” التي أصابت النسيج الاجتماعي للشبونة وبورتو ومدن أخرى كانت بالغة، بحسب “لويس مانديز”، الجغرافي والناشط بمجال الإسكان.
لا تضرب حالة الإيجارات غير الممكن تحمّلها والإخلاء اولئك الذي يعيشون بالكفاف على الأجور أو الرواتب التقاعدية فقط، بل تتعداها إلى العمال العاديين وأسرهم. ويمكن تتبع محنتهم رجوعا إلى أزمة الديون الأوروبية لعام 2008، ولأجل جذب الاستثمار، توجب على البرتغال تحرير قوانينها كشرط من برنامج إنقاذها الدولي، تم إطلاق برنامج “الفيزا الذهبية”، عارضاً سماحاً بالإقامة مقابل شراء عقار بقيمة نصف مليون يورو أو اكثر، ولا يلزم المستثمر بالانتقال للعيش في البلاد، فقط قضاء أسبوعين من السنة يكفي، كما تم استحداث “مشروع الإقامة غير الاعتيادية”، الذي يمنح المواطنين الأجانب الذين يقضون نصف العام في البرتغال إعفاء ضريبيا لمدة عشر سنوات على دخولهم المالية يكسبونها في مناطق أخرى.
حققت هذه الخطط نجاحا باهرا، فقد أصدرت عشرة آلاف فيزا ذهبية إلى مشترين من خارج الاتحاد الاوروبي منذ سنة 2012، مقابل أكثر من خمسة مليارات يورو كاستثمارات، تدفق أغلبها على سوق العقار، ويأتي غالبية المالكين الجدد للعقارات من الصين والبرازيل وتركيا وجنوب أفريقيا وروسيا.
تنشيط الوضع الاقتصادي
قبل عدة أشهر، قال “لويس ليما”، الذي كان رئيس الرابطة البرتغالية لشركات الوساطة العقارية، إن الميزات الاستثمارية لا شك بمنحها البلاد “مهربا” مهما من التأثيرات الأسوأ للأزمة المالية، ويضيف: “أي شيء جيّد للسياحة هو جيّد لنا”، وكان ليما من أوائل الذين شرعوا باستكشاف الاستثمارات الأجنبية من الخارج بعد أزمة 2008، ويستذكر قائلا: “لم تكن بعض الخرائط تضع اسم البرتغال عليها، فقد كانت تشير فقط إلى “إيبيريا”، أما الآن، فالكل يعرف اسمنا. لقد غيّرنا النموذج، والخطط كانت جيّدة للتشغيل، وتم خلق آلاف الوظائف بشكل غير مباشر”.
لكن مينديز، وهو أيضا عضو في هيئة مستأجري لشبونة، فيقول إن التحوّل الهائل جدا لإسكان العاصمة إلى أصول مالية توّلد الثروة قد مثل “كارثة” للعديد من ساكني لشبونة، ورأى أفراد لا حصر لهم أن حاجتهم إلى المنازل قد همّشت مع الارتفاع الجنوني للأسعار، واضمحلال شبكة الأمان للمستأجرين. وصارت إجراءات سنة 2012 الصارمة المصممة للتعامل مع “جمود” سوق العقار الحضري بما يعرف “قانون الإخلاء”، إذ واجه المستأجر فجأة ارتفاعا خرافيا ببدل الإيجار مع نهاية عقد الإيجار، أو يتم إخلاؤه إذا رغب المالك بترميم الشقة، الأمر الذي لم يسبق سماعه فيما مضى. وبحلول سنة 2017، تضاعفت معدلات الإخلاء عمّا كانت عليه سنة 2013، ووصلت إلى ما يقارب من خسارة خمسة أسر لمساكنها يومياً.
كمركز سكني تاريخيا، كانت بدلات الإيجار في لشبونة رخيصة وفقا لمعايير العواصم الاوروبية الأخرى، لكنها كانت بالخط نفسه متناسبة مع معدلات المدخولات المالية المتدنية للبرتغاليين، ومع زيادة الاهتمام القادم من الخارج، فاق الطلب العرض، رافعاً الأسعار ودافعا الناس إلى الخارج.
 
أحوال متقلّبة
علاوة على ذلك، كانت لشبونة تحتوي على عدد كبير، وبشكل غير عادي، من المنازل الفارغة لغاية سنة 2010، فقد كانت ثلث البنايات في مركز المدينة التاريخي غير مأهولة، على أقل تقدير، والعديد منها متآكلة، لتمثل فرصة ذهبية للمستثمرين، بحسب مينديز، وفي الهيجان الذي حدث، تم بيع المباني بمليون يورو في الليل، وبيعت في الصباح التالي بمبلغ مليون 
و700 ألف يورو، يقول مينديز: “أحيانا، ومع ترميم بسيط فقط، بيعت أملاك مقابل 60 ألف يورو أو 70 ألف يورو قبل ست سنوات، وحاليا تقدر بنحو 400 ألف أو 500 ألف يورو”.
بالوقت نفسه، قدّمت السياحة للشبونة نظاماً حديثاً لتأجير المنازل قصير المدى، فأي شخص كان يتمكن من توفير غرفة أو أريكة كان بمقدوره تأجيرها، وبدأت المنازل الصغيرة المؤجرة بأخذ حصتها من سوق الإسكان المتوفر بمتناول اليد، بحسب مينديز، وبينما كانت سابقاً مليئة بمباني متداعية ومنهارة، انتقلت المدينة القديمة بسرعة فائقة إلى حاضرة حديثة، وتعج مركبات التوك توك بالسياح المتجوّلين في الشوارع الضيّقة المرصوفة بالحصى، وشهد عمل المطاعم ازدهارا واضحا، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت لشبونة بالارتقاء ضمن القائمة الدولية كوجهة سياحية وأحد أكثر المدن “النابضة بالحياة” داخل القارة العجوز.
وبحلول 2019، كان معدل السياح الوافدين للمدينة قد وصل إلى أربعة ونصف مليون سائح، لمدينة يبلغ تعداد سكانها نصف مليون، بمعنى أكثر من ثمانية سائحين لكل ساكن، وبحلول 2020، أدرجت ثلث منازل مركز المدينة التاريخي على مواقع الكترونية لأغراض الإيجار القصير الأمد، رغم القيود المفروضة سنة 2019.
 
ضرر جماعي
 التحذير الذي أطلقته سنة 2016 “ليلاني فرها”، مقرر الأمم المتحدة الخاص بالإسكان، كان يتحقق، فقد قالت المسؤولة الأممية إن “السياحة الجامحة” في البرتغال ربما ستؤدي إلى مفاقمة حالات الإخلاء، وتسبب ظهور “طبقة جديدة من الفقر”، وبكل تأكيد، أي فرد برتغالي بالأجر الأدنى البالغ 665 يورو شهريا قد تعرّض للضرر بموضوع الإسكان، فمعدل الإيجارات حاليا داخل لشبونة، للأسرة، يتراوح بين 700 إلى 900 يورو شهريا، اعتمادا على المنطقة، بيد أن معدل الكسب المالي في المدينة يبلغ نحو 950 يورو. “تم إخلاء الكثير من الناس،” يقول مينديز.
تم ايقاظ “دولتشي دينغيو” وأطفالها مبكرا صباح أحد أيام شهر آذار 2021 من قبل رجال يصرخون عليهم ويبعثرون الأثاث داخل شقتهم المستأجرة في منطقة لوريس التابعة لمنطقة لشبونة الكبرى، الباعدة بمسافة 13 كيلومتر شمال شرقي مركز العاصمة، تقول دولتشي: “لم تكن لدي فرصة حتى لايقاظ أطفالي بشكل صحيح، فخلال دقائق بسيطة غيّر رجلان الأقفال، وأبلغاني بضرورة مغادرتي للشقة فورا”، وكان حكم قضائي قد صدر بإخلاء المبنى الذي تسكن فيه.
وكانت دولتشي قد فقدت عمليها في مجال التنظيف والخياطة مع انطلاق جائحة كورونا، وتقرّ بعدم مقدرتها على تسديد قيمة الإيجار، ولا تزال ظروف القضية خاضعة للإجراءات القانونية، لكن الأم الوحيدة، وأطفالها الثلاثة، أصغرهم كان بعمر 18 شهرا حينها ومعهم ابنتا اختها، قد وجدوا أنفسهم فجأة بدون سقف فوق رؤوسهم؛ كما انتهى المطاف بأربع أسر أخرى كانت تسكن المبنى نفسه إلى حالة التشرد، تقول دولتشي: “كان علينا البقاء خارجا والجو بارد، كان الأمر فظيعا، كما كان علي إطعام أطفالي في الشارع”.
 
توسع الاستثمارات
انتشر تضخم العقار حاليا من لشبونة إلى بلديات نائية مثل لوريس، بحسب الناشطين. “الأمر يشبه تقريبا ما يحصل من هزات ارتدادية لزلزال ما،” كما تقول سيلفا، ويتفق مينديز بالرأي معها: “لقد انتقلت من المركز  باتجاه أطراف المدينة وضواحيها” وتتمثل الصعوبة التي تواجهها دولتشي في أن البرتغال لديها أحد أدنى معدلات دعم الإسكان الاجتماعي في أوروبا، مع امتلاك الدولة لاثنين بالمئة فقط من المساكن، مقارنة مع 17 بالمئة في بريطانيا و16 بالمئة في فرنسا و24 بالمئة في النمسا.
تم إسكانها بداية في نزل تدفع السلطة المحلية تكلفة إيجاره، ويعاني أطفالها من الإرهاق، لأن المسافة إلى المدرسة تستلزم السير على الأقدام لمدة ساعة كاملة، حسب قولها: “الأطفال يسألونني على الدوام متى يمكننا العودة إلى بيتنا”، وأصدرت المحكمة أخيرا قرارا بنقض إشعار الإخلاء الصادر بحق دولتشي، وهو قرار تم استئنافه حاليا، بالوقت نفسه، بقيت الأسرة تتنقل بين النزل والملاذات المؤقتة، وكتبت دولتشي رسالة إلى وزير الإسكان في بداية هذا العام، تقول فيها: “أنا أطلب المساعدة، فأنا لا أعلم كيف أتعامل مع دموع أطفالي الذين لا يعلمون متى يعودون إلى منزلهم، لا أعرف كيف أتعامل مع غموض الحياة، ومع القادم والذاهب، وأشعر أحيانا بأنني أفقد القوة التي تبقيني أقاوم، أريد فقط تقديم حياة 
كريمة لأبنائي، وأريد فقط العيش بكرامة”.