تعلن رواية (الضائع في رحلة كول) للكاتب (حيدرعبد السلام العتابي)، الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2018 م، ومنذ عنوانها تناصها مع تلك اللوحات التي أنجزها الرسام الأميركي (توماس كول) والتي حملت عنوان (رحلة الحياة).
إن من اشتراطات الابداع أن يكون لكل كاتب أدواته وطريقته الخاصة، وهو ما وجدناه في هذه الرواية، التي أخبرت عن خصوصيته الروائية في طرح عمله الإبداعي، وتبدأ ملامح هذه الخصوصية عندما تدلف فضاء السرد العبارة التي يطلقها بطل الرواية (أنا حسن محسن الجادر وهذه رحلتي) ليفتتح عمله بسرد روائي محكم ينسج لنا من خلاله خليطا من أسى خاضه العراقيون منذ الانتفاضة الشعبانية أو ما قبلها مبتدئاً الرحلة بمنولوج ذاكراتي لأيام الطفولة ليكون متناغما مع اللوحة الأولى للفنان (توماس كول) ذلك أن الفنون الإبداعية بمجملها إنما تخاطب العمق التأملي لدى المتلقي.
سرد تعبيري
يتحول بعد ذلك المكان في الروي للحديث متجهاً صوب بوابة النضج (بغداد) مكان الدراسة الجامعية والتعرف على الحبيبة راسما سرده بعين الصورة الثانية من رحلة الحياة لتوماس كول. والكاتب في تعدد صوره وانتقالاته تكون لديه الشخصيات حاضرة ومؤثرة من خلال صوت افكارها وحركتها في المكان سواء في حديثه عن الحبيبة وتمسكه بها أو في مواجهته (لقيصر) رمز التسلط والدكتاتورية والظلم الذي رسم خواتيم حياته بعد اكتمال لوحات الضياع في تناصها مع اللوحات المرسومة للفنان كول. ولا بدَّ هنا من توضيح تقنية السرد التعبيري برؤية واسعة من حيث الجمع بين الوصف والمنولوج الداخلي الذي يتبناه البطل (الراوي العليم) أو قد يستعان بالراوي المساعد الذي يمثله اخو (حسن الجادر). فالقارئ يستطيع ان يتلمس الماضي بالاستذكار والمقارنة بين حالتين ـ تضم الأولى ايام الطفولة وتحاكي الثانية احداثا خاضها البطل ما بعد الانتفاضة الشعبانية ـ وقد يتوجه الى لملمة الذات من تداعٍ يتواشج أو يتقاطع مع مسيرة الراوي البطل في بداية تشكيل اللوحتين الاولى والثانية روائيا؛ إذ يتم تشكيل وحدة موضوعية بسرد متناغم لاكتمال بنى سوف تتصاعد وذروة الأحداث من تشرد وحرمان واعتقال وجميعها ملامح ذات صفة واحدة تتماسك في ايصال الحدث الرئيس، وهي خلاصات محددة تنشأ لرصد هموم واستباحات تكتنف الداخل أو هي محصلة رؤى تتلامس وأوجاع غربة يترجمها المنفى، على شاطئ بحر أو في انتطار عملية تهريب أو في مراقبة عيون شرطة الحدود، صعوبات تنتقل بين مفاصل الروي وفق صور حسية مؤثرة عبر الراوي البطل (كاتب المذكرات).
التناص مع اللوحتين الثالثة والرابعة
الرواية من منظورها البراغماتي استطاعت أن تؤكد أعمدتها الرمزية من خلال الكلام عن توالي المحطات بعد سفر(حسن الجادر) الى ايران ومن ثم الى ماليزيا (كوالالامبور) واندنوسيا والاتجاه نحو سواحل المحيط الهندي للوصول الى استراليا، وفي هذه التنقلات استطاع الراوي ان يجمع بينها بخطوط متساوية من ناحية استمرار موضوعه على الرغم من شعورنا بالمتاهة والشتات ونحن نقرأ ما واجهه اللاجئون والمغتربون وهم يتوجهون صوب المجهول عبر تنقلات محفوفة بالمخاطر لإثارة حالة من الشد والأمساك بالمتلقي والايغال أكثر بهدف الوصول نحو تجميع الخطوط العريضة للوحة الثالثة لكول من قبل الروائي وهي لوحة تشعر القارىء بحالة من امتداد وكأنها دوامة وانفتاح مضطرب نحو وصول غير مستقر.
في اللوحة الرابعة يتعمد الراوي تحميل شحنة كبيرة من مواقف التوتر والإنفراج بلقطات آنية أومستذكرة تضم الفترة التي عاد بها (حسن الجادر) الى العراق وكان ذلك بعد سقوط النظام، وهنا علينا الاشارة الى ان التناص في الرواية يعتمد التناص الخارجي الذي يستند على عمليتي الإحلال أو الإزاحة وفي كلا الحالتين قد ينجح النص الجديد في ابعاد النص المزاح أو ينفيه لكنه لا يتمكن ابداً من الإجهاز عليه كلية أو إزالة بصماته لأن النص المزاح يترك ترسباته في شتى طبقات النص الجديد* وهو يترجم تناصه مع اللوحة الرابعة وفق إرصاد مضطرب لصور مؤلمة من خطف وتعذيب، اشتباكات عنيفة، قوات الملتري بوليس الامريكية في شوارع بغداد، جثث، انفجارات، سيارات ملغمة، أجواء يختفي فيها الراوي وراء شخصية البطل مع الالتفاف حول شخصيات اخرى تتقاسم نسج الاحداث وتداعياتها وهي تساهم في الوقت نفسه بإنماء رحلة الوصول نحو اتخاذ قرار العودة للغربة بعدما ساد الروي الكثير من الخذلانات والخسارات التي لا تعوض لحسن الجادر اثر اضمحلال حبيباته الثلاث (أمه، بغداد، حبيبته)