النواب وبلاغة الجمال

ثقافة شعبية 2022/05/25
...

د. جواد الاسدي
كنت أرقب مظفر النواب عبر مرايا عريضة في مقهى الهافانا الشهيرة في وسط العاصمة السورية دمشق، حيث أدمن النواب الجلوس هناك على الكرسي نفسه وأمام الطاولة نفسها، وحيداً مع ورق شديد البياض يدوزن عليه قصائد وحشته بخط شديد الأناقة.
  وقتها كنت أتمرن على مسرحية "ماريانا" لغارسيا لوركا الاسباني الذي يعتبره النواب نجم سماوات اسبانيا شعراً وتمرداً، وتقصدت المرور عليه لدعوته لحضور بروفاتي آنذاك، القيت نظرة على حروف قصيدته التي كان يرسمها على الورق برهافة فنان تشكيلي يبتكر مناخاً متشابكاً مركباً،  لتبدو كتابة الشعر عنده كما لو إنه يعيش حالة غيبوبة شعرية تشبه كثيراً شجرة نور تضيء أرواح الجالسين إلى جواره، بمحاذاتها، كان النواب يصمت طويلاً ويتأمل الورقة ملياً، مثل قس نبيل يحرك نجوم الرهبان في الأعياد المأتمية، وأشد ما أثار اعجابي فيه، هو شفافيته العالية في التعامل مع محبيه  الذين يلقون التحية عليه بعجالة.
كان النواب مثل إله اغريقي يرمي على المارة تحياته بيديه الاموميتين، وعينيه الحليبيتين الهامستين بوجع وأنين يندر سماعه أو التقاطه.
كان شديد التبتل، لم يثلم شاعراً ولم يحط من قيمة موسيقي أو تشكيلي، مع كل غنى معجمه المتفرد،  فهو ابن موسيقى ستروفسكي والضليع بفان كوخ وشاكال.. حمل بضلوعه جلال الدين الرومي ودريدا وفاكنر وبيلنسكي، وكان على شغف عالٍ بموسيقى رحمانينوف.
ولعل أشد ما كان يدهشني في النواب ذلك التعري اللغوي على بياض الورق من جهة، والحصان النازف على خشبة المسرح عندما يلقي قصيدته الملحمية الفذة من جهة أخرى. 
اطرن  هورهه مصكك
واصيحهن عليك جروح 
يجحلن جالمطبجات الزرج 
صلهن يشوق الروح 
واجيك اشراع ماهو شراع 
عريانه سفينة نوح 
 كان يتلو قصيدته مثل حصان غجري غرناطي بابلي.. ركابه سومريون وأكديون وكنعانيون وفينيقيون .
بعد تألق النواب في تقديم قصائده على مسرح الحمراء في دمشق الحبيبة، نعود إلى بيت الحنو والألفة،  بيت ممدوح عدوان شاعر الحياة والصداقات العذبة، الهام زوجته سيدة الكرم على الجندي الشاعر العذب كوكب حمزة ملحن الجمال والتحول الأخاذ في الأغنية العراقية.
 صديقتنا الجميلة انتصار صفية وبندر عبد الحميد وسعيد حورانية ومظفر  النواب المتوهج الحالم، مرتوياً من عزف وغناء كوكب حمزة يقرأ مظفر الريل وحمد بمرارة مغموسة بعطر القصب والجنوب، ورغبة كبيرة بمعرفة سر ذلك النبوغ الملحمي في:
ميلن لا تنكطن كحل فوك الدم
 ميلن وردة الخزامة تنكط سم 
وجرح صويحب بعطابة ما يلتم 
 بأي مجداف كان يحرك مظفر ريح اللغة، ومن أي سماء كان يقطف نجوم الأهوار!.