وثائق تكشف عن التوسع الشرقي للناتو

بانوراما 2022/05/28
...

  كلاوس فيغريف
  ترجمة: خالد قاسم
جرت العادة أن يهتم الخبراء فقط بما ينشره معهد لايبنيز للتاريخ المعاصر من “وثائق عن السياسة الخارجية لجمهورية ألمانيا الإتحادية”، وهي عبارة عن مجلدات سميكة مليئة بالوثائق عن وزارة الخارجية.
لكن هذه المرة الاهتمام كبير جدا، ويتضمن المجلد الجديد وثائق من العام 1991، وهي مذكرات ومحاضر ورسائل تحوي تفاصيل غير معروفة سابقا عن توسع حلف الناتو شرقا، وانهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال أوكرانيا. يبدو أن هذه الوثائق قد تشعل الجدال الدائر والمحيط بسياسات ألمانيا تجاه الاتحاد السوفيتي وروسيا منذ سنوات طويلة حتى يومنا هذا.
يجد المنتقدون فيها أدلة كثيرة على أن الألمان أولوا مصالح موسكو اهتماما مبالغا به، لكن المدافعين عن أسلوب برلين المتساهل تجاه الكرملين سيجدون الدعم أيضا بتلك الوثائق لموقفهم.
 
بعد الحرب العالمية الثانية، برز رجلان في قلب السياسة الألمانية تجاه أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، هما كل من: هيلموت كول من الحزب المسيحي الديمقراطي وعمل مستشارا للبلاد طيلة 16 عاما، والآخر هانز ديتريش غينشر من حزب الديمقراطيين الأحرار وهو وزير خارجية كول ونائبه. تمتع الرجلان بإجادة استخدام السلطة، وكانا في ذروة الشهرة بعد توحيد ألمانيا.
كان الاتحاد السوفيتي لا يزال موجودا في العام 1991، مع أن قوميات كثيرة كانت قد شكلته لكنها بدأت بمواجهة موسكو. وشعر كول أن تفكك الاتحاد سيكون “كارثة” تعم الكثيرين، لذلك سعى مرارا وتكرارا لأن يتكيف الزخم في الغرب ضد استقلال أوكرانيا ودول البلطيق.
خلال الحرب العالمية الثانية وفي العام 1940، ضم الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين إستونيا ولاتفيا وليتوانيا للاتحاد السوفيتي، ولم تعترف ألمانيا (الغربية) التي نشأت بعد الحرب، مطلقا بذلك الضم. لكن هلموت كول وجد نفسه أمام ثلاث جمهوريات في البلطيق تضغط من أجل استقلالها وتسعى لمغادرة الاتحاد السوفيتي، وشعر الزعيم الألماني أنها إتخذت “المسار الخاطئ” كما أخبر الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران خلال لقاء جمعهما في باريس مطلع 1991. أحس كول بضرورة تحلي دول البلطيق بمزيد من الصبر بشأن استقلالها والانتظار عشر سنوات أخرى، اضافة الى بقائها محايدة وعدم انضمامها لحلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي.
 
الحل الكونفدرالي
إعتقد هلموت كول بضرورة بقاء أوكرانيا ضمن الاتحاد السوفيتي، مبدئيا على الأقل، حتى لا يتعرض استمرار وجوده للخطر. وبمجرد أن صار واضحا مواجهة الاتحاد لحالة التفكك، فضّل الألمان انضمام كييف لكونفدرالية مع روسيا وجمهوريات سوفيتية سابقة. وعرض كول في تشرين الثاني 1991 على الرئيس الروسي بوريس يلتسين “ممارسة النفوذ على القيادة الأوكرانية” لكي تنضم إلى هذا الاتحاد وفقا لمذكرة من نقاش دار بينهما خلال رحلة الرئيس الروسي يلتسين إلى بون، عاصمة ألمانيا آنذاك. وشعر دبلوماسيون ألمان أن كييف تظهر “نزعة تجاه الإفراط بالقومية التسلطية”.
غيّر كول وغينشر مسار الحوار بعد تصويت أكثر من 90 بالمئة من الأوكرانيين لصالح الاستقلال في استفتاء أجري بعد أسبوعين على ذلك اللقاء، وكانت ألمانيا أول دولة ضمن الإتحاد الأوروبي تعترف بإستقلال أوكرانيا.
أثارت سياسات ألمانيا تجاه وسط وشرق أوروبا أسئلة كثيرة، فبعد انهيار حلف وارشو في العام 1991 سعى غينشر لاستخدام بعض الحيل لمنع دول مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا من عضوية الناتو بداعي مراعاة مخاوف الاتحاد السوفيتي.
خلق زخم دول وسط وشرق أوروبا نحو الإنضمام للناتو مزيجا متقلبا في موسكو من “تصورات التعرض للتهديد والخوف من العزلة والإحباط من جحود الدول الشقيقة السابقة” كما ذكر السفير الألماني في شباط 1991.
شعر غينشر بالقلق من إشعال هذا الوضع أكثر، وأعلن أن عضوية وسط وشرق أوروبا في الناتو “ليست من مصلحتنا” وأشار إلى حق تلك الدول بالإنضمام للتحالف الغربي، لكن التركيز يجب أن ينصب على ضمان “عدم ممارستها هذا الحق”.
هل جاء ذلك الموقف من حكمة غينشر ورغبته بالسلام لصالح أوروبا فقط، أم كان نذيرا بتسوية مع موسكو “على حساب دول أخرى في شرق أوروبا”؟ يفضل رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني مايكل روث إنشاء لجنة تقصي حقائق للبحث بإخفاقات بلاده في ما يتعلق بسياستها تجاه الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا. ويرى أن برلين “في الواقع تنكر سيادة” الدول الجارة لها.
أشار ما يكل روث تحديدا الى سياسات برلين خلال السنوات الأخيرة، لكن المثير للانتباه على أن تلك السياسة سواء قبيل توحيد ألمانيا أو بعده صارت اليوم بؤرة انتقاد من جميع الأطراف، وتنتقد روسيا الغرب أيضا بعدم احترام كلمته في ما يخص توسيع الناتو شرقا.
 
تعهد مزعوم
بعض الوثائق التي كشف النقاب عنها مؤخرا ربما أعيدت صياغتها من قبل الرئيس الروسي اللاحق فلاديمير بوتين ومساعديه كسلاح في الحرب الدعائية المستمرة. ويعود ذلك الى أن غينشر وكبار دبلوماسييه أشاروا في عدة مناسبات الى تعهد أعطي خلال مفاوضات بشأن إعادة توحيد ألمانيا ويقضي بعدم توسع الناتو إلى أوروبا الشرقية.
إدعى سياسيون روس وجود ذلك التعهد منذ عشرات السنين، وسعى الرئيس بوتين لإستغلال الجدال لتبرير غزوه أوكرانيا، لكن موسكو أقرت بتوسع الناتو في معاهدة التأسيس بين الحلف وروسيا عام 1997، وإن كان ذلك على مضض.
يبدو أن الكثير من الوثائق الحالية تدعم الموقف الروسي، ففي الأول من آذار 1999 أبلغ غينشر الولايات المتحدة معارضته التوسع الشرقي للحلف، وبرر ذلك أن مفاوضات إعادة توحيد ألمانيا شهدت إبلاغ السوفيت بعدم وجود نية لتوسيع الناتو شرقا، وبعد ستة أيام أشار المدير السياسي لوزارة الخارجية الألمانية يورغن كروبوغ خلال اجتماع مع دبلوماسيين من بريطانيا وفرنسا وأميركا الى التفاهم الموجود بمعاهدة توحيد بلاده ويتضمن عدم استغلال انسحاب القوات السوفيتية من الشرق لمصلحة الغرب، وفي 18 نيسان أبلغ غينشر نظيره اليوناني أنه أخبر السوفييت رغبة بلاده بالبقاء في الناتو حتى بعد توحيدها مقابل عدم توسيعه شرقا، والتقى غينشر يوم 11 تشرين الأول مع نظرائه من فرنسا وإسبانيا، وهما رولان دوماس وفرانسيسكو فيرنانديز أوردونيز تواليا، وسجل محضر الاجتماعات تصريحات غينشر تتعلق بمستقبل دول وسط وشرق أوروبا.
نتيجة لذلك، أراد غينشر إعادة توجيه رغبات تلك الدول بالإنضمام للناتو وبحث عن بدائل “مقبولة” لدى السوفيت. وكانت المحصلة مجلس تعاون شمال الأطلسي، وهو كيان تمتلك فيه جميع دول حلف وارشو سابقا حق التصويت.
وصل الأمر في فترة ما الى تفضيل الألمان إصدار الناتو اعلانا رسميا بعدم توسعه شرقا، لكن بعد زيارة وزير خارجية ألمانيا واشنطن في آيار 1991 وأبلغه الأميركيون عدم استبعاد التوسع مستقبلا، تراجع غينشر بسرعة وقال أنه لم يفضل “إعلانا محددا” ويبدو في الواقع أنه أراد تجنب توسع الناتو شرقا.
رأى هلموت كول فرصة تاريخية تخص العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، وكان يأمل فتح صفحة جديدة مع موسكو بعد الحرب العالمية الثانية وما شهدته من مقتل ملايين الأشخاص وتقسيم بلاده بسبب الحرب. أما الاتحاد السوفيتي فكان تحت قيادة ميخائيل غورباتشوف وهو شيوعي مثالي ومؤيد للإصلاح أحبه الألمان منذ قبوله بنهاية ألمانيا الشرقية. ولم تحظ معارضة غورباتشوف الشديدة لتوسع الناتو شرقا بأية أهمية قياسا بالتقدير الذي تمتع به في ألمانيا.
سعى كول لتحشيد الدعم حول العالم لغورباتشوف وسياساته، وساعد بتأمين دعوة لزعيم الكرملين لحضور قمة السبع، وتحت قيادة كول قدمت ألمانيا أكبر مساعدة خارجية لموسكو.
 
خطر الانقلاب
شعر كول بقلق بالغ من خصوم غورباتشوف داخل الجيش والأمن ومؤسسات الدولة السوفيتية الذين قد يسعون للإطاحة به، وكادت أن تنجح بالفعل محاولة انقلاب في آب 1991، إذ قامت مجموعة محيطة بنائب الرئيس غينادي ياناييف باعتقال غورباتشوف نفسه، لكن تظاهرات حاشدة ورفضا واسع النطاق لتنفيذ الأوامر داخل الجيش ومقاومة بوريس يلتسين، الذي كان شغل منصب رئيس جمهورية روسيا آنذاك، حكمت على تلك المحاولة بالفشل وبقي غورباتشوف في منصبه.
يصعب تخيل ماذا كان سيحدث في حالة نجاح الجيش السوفيتي تحت قيادة دكتاتور منتقم آنذاك، خصوصا مع تواجد مئات آلاف الجنود السوفييت في ألمانيا الشرقية ووحدات اضافية تنتظر الانسحاب من بولندا وتشيكوسلوفاكيا. وتوضح ملفات الخارجية الألمانية أن انسحاب تلك القوات كان “أولوية مركزية” للسياسة الألمانية.
تجدر الاشارة هنا الى امتلاك الاتحاد السوفيتي نحو 30 ألف رأس نووي، وشكلت تهديدا كبيرا مما دفع الخارجية الألمانية في بون آنذاك للتصريح: “الأمن النووي على الأراضي السوفيتية له بالتأكيد أولوية مطلقة بالنسبة لبقية العالم”.
من هذا المنظور كان أي إضعاف لغورباتشوف غير مطروح، ويصح الأمر نفسه للاتحاد السوفيتي ككل، إذ حاول غورباتشوف الحفاظ على وحدته أمام جميع أشكال المعارضة. آمن كول وغينشر بنوع من نظرية الدومينو التي تقول أن دول البلطيق اذا تركت الاتحاد السوفيتي فإن أوكرانيا ستحذو حذوها، وينهار الاتحاد بعدها بالكامل، ويسقط غورباتشوف أيضا. وهذا ما حدث بالفعل طيلة العام 1991، لكن كول شكك بمدى سلمية ذلك التفكك، وشعر أن نوعا من “الحرب الأهلية” كان ممكنا،  غير أنه وقع فعلا بعد ذلك بفترة قصيرة، ولكن في جمهورية يوغسلافيا الشيوعية.
تكرر صدى هذا الموقف لدى وزير خارجية غورباتشوف، إدوارد شيفاردنادزه، الذي حذر الألمان خلال زيارة غينشر الى موسكو في تشرين الأول 1991 وتنبأ بأن الاتحاد السوفيتي إذا ما انهار، فربما يستلم السلطة يوما ما في روسيا “زعيم فاشي” ويطالب بإعادة شبه جزيرة القرم، وهو أمر وقع فعلا حيث ضمّها الرئيس الروسي بوتين بعد أكثر من عشرين سنة.
أحس كول في العام 1991 بإمكانية عودة ظهور شكل سام من التطرف القومي الذي ظهر في شرق أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، وآمن أن دول البلطيق إذا صارت مستقلة “فالصدام مع بولندا سيبدأ من جديد.” وكانت بولندا وليتوانيا قد قاتلتا بعضهما البعض خلال العام 1920.
الاستنتاج الذي توصل إليه المستشار الألماني مفاده بأن “تفكك الاتحاد السوفيتي لا يمكن أن يصب في مصلحتنا.” لكن جاءت النهاية لتشهد دول البلطيق وأوكرانيا نيل استقلالها. ومن غير الممكن معرفة على وجه التحديد اذا كان تحليل هلموت كول للوضع خاطئا أم أن ليتوانيا ولاتفيا ببساطة كانتا محظوظتين لأن طريق استقلالهما اتصف بالسلمية.
وقف عدة حلفاء غربيين مع الألمان في تحليلهم للوضع، فالرئيس الفرنسي ميتران من جانبه اشتكى من البلطيق قائلا “لا يمكنك المخاطرة بكل شيء كسبته فقط لتساعد دولا لم تكن موجودة بحد ذاتها منذ 400 سنة”. حتى الرئيس الأميركي جورج بوش الأب تذمر من قوة سياسيي دول البلطيق أثناء سعيهم لكسب الاستقلال.
دفعت صداقة ألمانيا مع الكرملين المستشار كول للتغاضي عن إعتداء اجرامي وقع يوم 13 كانون الثاني 1991 عندما شنت القوات السوفيتية الخاصة في العاصمة الليتوانية فيلنيوس هجوما على حركة الاستقلال الوطنية هناك، واقتحمت برج التلفزيون الوطني ومباني أخرى، وأسفر الهجوم عن مقتل 14 شخصا وإصابة المئات.
أجرى كول وغورباتشوف اتصالا هاتفيا بعد أيام قليلة على أعمال العنف تلك، وأشار دبلوماسي إستمع للمكالمة إلى تبادل الرجلين “التحيات القلبية” واشتكى غورباتشوف من استحالة المضي قدما “بدون اجراءات حادة معينة”، في اشارة الى ما يبدو أحداث فيلنيوس. وأجاب كول: “في السياسة يجب على الجميع الانفتاح أمام المنعطفات. الأمر المهم أنك لا تفقد رؤية الهدف.” اختتم غورباتشوف حديثه بالقول إنه “يثّمن عاليا” موقف المستشار الألماني. وتذكر محاضر الإتصال الى عدم النطق بكلمة ليتوانيا ولو لمرة واحدة. ويبقى دور غورباتشوف في الهجوم العنيف غير واضح حتى يومنا هذا.
 
مجلة دير شبيغل الألمانية