جاءني إشعارٌ لتطبيق {الواتسآب} برسالة من كَروب جريدة {الصباح}: (نعتذر لضيوفنا الكرام عن تأجيل احتفاليَّة تأسيس جريدة الصباح، لوفاة الشاعر الكبير مظفر النواب، نكرر اعتذارنا).
توقف بي الزمن لدقائق قليلة وأعادني بذكرياتي حين كنت أعمل مراسلة لإحدى الصحف المحلية ويُطلبُ مني دائماً حوارات مع نجوم الصف الأول مع فنانين مصريين وعرب، فكان طموحي أنْ أجري حواراً مع الشاعر الكبير مظفر النواب بعد أنْ علمت أنَّه وصل العراق وسيتم الاحتفاءُ به في جلسة صباحيَّة نظمها الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق.
بعد انتهاء جلسة الاحتفاء نجحت في الوصول للنوّاب بعد جلوسه للراحة والحديث في مكتب الشاعر ألفريد سمعان وقلت له بحماسٍ كبير: "أستاذ مظفر أريد أعمل معك لقاءً ممكن آخذ من وقتك عشر دقائق؟"، فردَّ عليَّ بابتسامة هادئة "ممكن ليش لا، بس سمعيني الأسئلة؟" فقلت بثقة عالية بالنفس:
1 - ما أول قصيدة كتبتها؟.
2 - أول حب في حياتك؟.
٣- لو لم تكن شاعراً فماذا يمكن أنْ تكون؟ ورابعاً، قاطعني النوّاب بضحكة طويلة وهو يتأمل ثيابي من قميصي الأبيض وتنورتي الرصاصيّة اللون والشريط الذي يعلو ضفيرتي مثل طالبات المدرسة الابتدائيَّة وقال لي "ابنيتي غفران انتِ خريجة أي جامعة؟"
- لا أنا ما زلت طالبة في كلية الإعلام - جامعة بغداد.
- طيب انتِ مطلعة أو قارية دواويني الشعريَّة؟
- لا، بعض قصائد الغزل.
أدركت أنني أعددت أسئلة سطحيَّة، بسيطة وربما ساذجة لا تليق بمسيرة النوّاب الأدبيَّة.
وقال لي النوّاب بابتسامة عريضة: أقترح من تتخرجين من الجامعة نعمل اللقاء شنو رايج؟، ثم أردف بالقول: من أهم أدوات الصحافي اللغة، وموهبة وعشق الصحافي للمهنة من دون صقلها بالثقافة والقراءة لا تكفي".
كنت حزينة لتغيير رأيه بإجراء اللقاء وحزينة أكثر أنَّ هاتفي الجوال وقتها وكما يسمى باللهجة الشعبية "الطابوكة" لا يصلح لأخذ صورة لتوثيق لقائي بهذه القامة الكبيرة.
وحين عدت للعمل لم أخبر أحداً بما حصل لي مع النوّاب حتى ما اسمع "رزالة حلوة" كالتي أسمعها دائماً حين أفشل بأي نشاط صحافي، فزملائي كانوا يحثونني كثيراً على القراءة لتطوير ثقافتي ولغتي الصحافيَّة وكانوا دائماً يقولون لي: "إنَّ نشاط ومثابرة الصحافي/ة، ووصوله الى النجم وحدها لا تكفي".
وبعد هذا الموقف أعترف أنني بدأت أقرأ بشكلٍ منتظم، فالجاهزيَّة والجديَّة في العمل الصحافي وتوسيع دائرة العلاقات العامَّة والأمانة والنزاهة في نقل المعلومات والقدرة على التكيف صفات لا تكفي للنجاح في بلاط السلطة الرابعة.
تعلمت من أساتذتي الذين التقيتهم في حياتي المهنيَّة أنْ عامل المثابرة وتعزيزها باكتشاف الشغف سيقدم لنا إرادة في العم، ومن يعشق هذا المجال يجب أنْ يمتلك الحس الصحافي والإحساس العالي بكل ما هو جديرٌ في أنْ يكون خبراً مهماً والدقة والموضوعيَّة والخبرة في معالجة وتحرير المعلومات، تعلمت أنَّ الصحافي الناجح يجب أنْ يتقن اللغة العربيَّة بطريقة جيدة جداً، فاللغة من أهم شروط النجاح في مهنة الصحافة وأنْ تكون لدى الصحافي معلومات وفيرة عن الشخصيَّة التي ذهب ليحاورها من قراءة كتب أصدرها إنْ كانت الشخصيَّة أدبيَّة أو مشاهدة أفلام ومسلسلات لأعماله إنْ كانت الشخصية فنيَّة، حتى ينتج مقابلة غنية وجعل الضيف يتفاعل مع الأسئلة.
نعم يجب أنْ يكون الصحافي مطلعاً على معظم أعمال الضيف المحاور ولا تكون الأسئلة مكررة وسطحيَّة.
تعلمت من أساتذتي أنَّ المقابلة الصحافيَّة الناجحة يجب أنْ تعتمد على التحضير لها مسبقاً، وتعتمد على تبادل أطراف الحوار المنظّم والبحث المسبق على الشخص المُقابَل، وأخذ الحيطة من عدم التحدث بأمورٍ لا يرغب المُقابَل بنشرها وأنْ يعدَّ الصحافي مسبقاً معه كاميرا لتوثيق اللقاء بصور حصريَّة للجريدة التي يعمل بها وجودة الصوت المُسجَّل قبل إجراء المقابلة الفعليَّة ولا يعتمد فقط على القلم والورق اللذين لا يوثقان كل حديث الضيف خصوصاً إذا كان سريع الكلام.
رحل شاعرنا الكبير مظفر النوّاب وأنا أستذكر حزني وفشلي في إجراء مقابلة معه رغم سعادتي أنني التقيته ذات يوم وصافحت أصابع كفه التي كانت ترتجف بسبب ظروفه الصحيَّة.
لو كان النوّاب على قيد الحياة ويجعلني القدر أمامه من جديد كنت سأسأله عن الرحيل والانتقال والمنفى، أسأله عن الكرخ وبيته الشرقي المطلّ على نهر دجلة، وأسأله أيضاً عن مدرسة الفيصليّة الابتدائيَّة التي درس فيها وهروبه منها للمشاركة في التظاهرات، وكنت أسأله عن تجربته المريرة مع السجون وردهات المواقف الضيقة قبل التحقيق معه وهروبه من سجن نكَرة السلمان، لو التقيت به مجدداً كنت سأتغزل بعينيه المتعبتين، من أبيات شعره:
شلون أوصفك؟
وإنت كهرب
وآنه دمعة عيني... دمعة ليل ظلمه
شلون اوصفك؟
وإنت دفتر… وآني چلمه
يلّي ما جاسك فكر بالليل
ولا جاسك سهر
يلّي بين حواجبك غفوة نهر
يلّي جرّة سما بعينك
خاف أفزّزها من اگلّك
آنه أحبّك…
مامش بمامش… وللمامش
يميزان الذهب وأدغش وأحبّك
سلّمت كل الحجي الوادم
وأرد أگلّك..
فرني حسنك يا بنفسج
وإنت وحدك دوختني
وعلى حبّك..
أنه حبيت الذي بحبهم لمتني
يا طعم.. يا ليله من ليل البنفسج
يا عذر…
يمامش بمامش وأحبّك