رنا صباح خليل
يتخذ الروائي عبد الستار البيضاني في روايته (دفوف رابعة العدوية)، الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق اسلوباً لافتاً للنظر وهو يقدم نصاً جديداً جداً في ثيمته وفي شكله ومقاربته الفنية، وفي سرديته التي تمازج بين الموروث وبين الحداثي لغة ونظماً، بنفس يلامس الصوفي ويتداخل مع الغرائبي، بما وفر له من إمكانات الكتابة التي تجعلها رواية مختلفة.
وبما بذل فيها من جهد إبداعي من أجل أن تقرأ وبشكل جمالي، ولا شك أن جدارة العمل الروائي تكمن في بعض وجوهها، في اكتشاف والتقاط ما هو مُفارق لدى الشخصيات مهما كانت عاديةً، وعلى شبه كبير بشخصيات الحياة الواقعية، وهنا يبدأ العمل باستدعاء الكاتب لشخصياته من مقامها المعلوم أو المجهول ومن ثم يقوم بوضعها في سياق حدثي وتصويري معين، لتبدأ بالتخلق دراميا وفنيا، وفي هذه الرواية يخال أن للشخصية المحورية حضورين متجاورين متضافرين أحدهما في المخيلة والثاني في الواقع الفني الذي يتم تخليقه، والذي يمثل كيانا موازياً، أو رديفاً للحياة الواقعية، أما سحرها الذي يستولي على وجدان القارئ ووعيه، فقد جاء من فكرة غرائبية مفادها بأن بطل الروي يشعر أنه يعيش في رأس امرأة وتحديدا في محجري عينيّ الشخصية المحورية، ومن خلالها ينظر نظرته للحياة وتلك هي (قبس) اسم الشخصية التي تأخذ في الروي كما اسمها جذوة من نار، منبعها رابعة العدوية أو هي رديفة لها وتماثلها، وبطبيعة الحال فإن السرد الدقيق والموحي والوصف البارع والحوار المتقن مع نجاعة التصوير للمشاهد وطريقة نقلها عبر الروي، كل ذلك يحمل قدرا من الاقناع لدى
المتلقي.
لعبة الكتابة السرديَّة وتحولاتها
لقد زاوج البيضاني في روايته ما بين مادتين حكائيتين أو لنقل شخصيتين (شخصية رابعة العدوية)، وهي مستمدة من موروثنا العربي الاسلامي أي انها مادة حكائية أصيلة، أما الثانية فهي شخصية (قبس) وهي صديقة قديمة لبطل الروي يشعر انه يسكن في عينيها، وهي هنا مادة روائية متخيلة مرتبطة بالواقع، ولا بدّ من الاشارة هنا إلى أنه طالما يبث النص الروائي حديثه عنها، وهي تُشبه نفسها برابعة العدوية أو كأنها نسخة محدّثة عنها، فإن اللغة والوصف غالباً لا يخرجان عن المنحى الصوفي خاصة عند التغزل بها والابحار في عينيها من قبل البطل في جميع لقاءاته معها.
تبدأ قبس سرد حكايتها وتتحدث عن حيثياتها، التي ارتأى فيها المؤلف أن تكون شبيهة بحياة رابعة العدوية، فهي فتاة توفى والدها وهي صغيرة، وتزوجت أمها بعد معاناة كثيرة، لتكون قبس واخواتها الثلاث في بيت خالتها، والمتتبع لسيرة حياة رابعة العدوية، فإنه يجد هذا ما كان ايضا فهي التي عانت الفقر المدقع، ومن ثم ذاقت اليتم مع اخوات ثلاث، ولو استمرت المقارنة فإن قبس عازفة للسنطور منذ نعومة أظافرها، رغبة بايجاد وسيلة للعيش وحبا بفنون الموسيقى، أما رابعة فهي تضرب على الدف عندما تعبر النهر في عملها على زورق ابيها لتسد رمق الحياة وتقي نفسها وخواتها مرارة الجوع، قبس حضرت القبولات في بيت خالتها وعملت مع فرقة شعبية، الا أنها تتعفف عن ملذات الجسد على الرغم من حبها للبطل، ورابعة شاء لها القدر الابتعاد عن اخواتها الثلاث بعد أن خُطفت وبيعت واشتغلت خادمة وتعذبت ونظمت الشعر وغنت لكنها ترفعت عن مطالب الجسد ايضاً، وعلينا القول إن هذا لا يعني ضمنا أن الرواية باستعانتها بشخصية من الموروث الحكائي أن تحضر داخل النص الروائي وخطابه، وهي محملة بالإرث الثقافي في شكل علامات مرجعية ورموز نصية وسيميائية، في نسخة مطابقة إنما أراد الروائي استدراج المتلقي أثناء التعامل معها وحثه لينطلق من خلفية معرفية مزودة بمعلومات تاريخية مسبقة، لتحقيق اتساق النص وانسجامه مع التاريخي والواقعي والمتخيل، كما هو الحال أثناء التعامل مع روايات تاريخية، تعتمد المزج بين سردية فنية تخييلية و بين التاريخ كمعطى واقعي معيش، كما تجسد ذلك في نصوصِ زكريا تامر، جورجي زيدان، نجيب محفوظ، واسيني الأعرج وغيرهم، رغم أن هذه الرواية هي ليست رواية
تاريخية.
قلنا إن الرواية في مرحلتها هذه جاءت بخطابات صوفية وانشادية، وقد راعى فيها الروائي أن تتوفر على المساحة المتوازنة ما بين لغة التجليات الصوفية وما بين اللغة المحاكية لروح العصر المتأخر عن عصر رابعة العدوية، وهو عصر قبس وحبيبها الذي هو الراوي العليم والذي يتحدث بصيغة المتكلم طوال مساحة الروي، فيجوب بنا أزقة البصرة، بحثا عن الرعوية التي كانت من متطلبات التقديم لنيل شهادة الماجستير في زمن التسعينات وما بعده في العراق، وفي طريقه للوصول الى هدفه عرّفنا على المدينة بازقتها ومعالمها وفنونها، ومنها أناشيد فرقة الخشابة، التي كان يتصورها امتدادا لحلقات الذكر الصوفية، ولكي يساعد المتلقي على فهم النص وتحسس اجوائه نقل لنا حلقة من انشادهم، الذي ترأسته (ماما رسلية)، التي هي صورة من رابعة العدوية ايضا، وهنا تجدر الاشارة إلى أن الوصف الدقيق لحركات الخشابة وانشادهم جاء في الرواية لغاية مفادها أن لكل شيء فلسفة، وهذا ما أراد الروائي طرحه ايضا عندما صور لنا مشهدية القبولات واجوائها في بيت خالة قبس في أول الروي؛ فإن كان الرقص بمعناه التقليدي كما عرفناه وتعودنا عليه يعني - بالنسبة إلينا- الفرح والأنس والطرب والسعادة وما هو في حكمها، إلا أنه بالنسبة للكاتب يعني ما هو أبعد من ذلك وأشمل، وليس من الضرورة - أبداً- أن يكون الراقصون سعداء أو مسرورين، بما يعكس مفهومنا التقليدي أو العفوي المباشر لثقافة الرقص، ويجعلنا نصححه، أو نعيد النظر فيه من جديد، ليكشف لنا في نهاية الأمر أن الراقصين أيضاً قد يكونون أشقياء وتعساء، ومن المحزونين والمغلوبين على أمرهم، ومن الضعفاء والمساكين، وذوي الفاقة والحاجة كذلك، وهم قد يؤدون دورا دينيا بطريقة ما، أو يعبرون عن حاجات مكبوته قد تظهر بصورة إثارات جنسية، وهذا ما يمكن تلمسه ايضا كلما تطرق الراوي إلى ضربات الدف ووقعها في النفس حتى انه يخيل إليه أن رابعة العدوية لم تقرر العزوف عن الملذات والتقرب من الذات الالهية، الا لأنها خُذلت من الجنس الآخر فلم تجد من الرجال من يستحق حبها، أي أنها لم تكن في معزل عن جسدها الا انها ارادت أن تقيه من مغبة الوقوع بفخاخ عدم الاستحقاق من قبل الجنس الآخر.