الجار قبل الدار

استراحة 2022/07/04
...

عواطف مدلول 
"الدار للبيع لسوء معاملة الجار" عبارة كتبت في لوحة اعلان معلقة على إحدى الدور، وتم التقاط صورة لها لتتناقلها سريعا وسائل التواصل الاجتماعي قبل ايام، فتثير ردة فعل كبيرة لدى كثير من الناس الذين تعاطفوا في تعليقاتهم مع صاحب الدار، واعتبروا ذلك الإعلان مجازفة كبيرة وخطوة شجاعة وجريئة نوعا ما، فالعبارة فيه قد تقلل من سعر البيت وربما تعرض صاحبها للخسارة، أو تتسبب في عدم الاقبال على شرائه، لأن الجميع يبحث عن الراحة في زمن الهموم والمشكلات والخوف وغياب الامان، لا سيما أن المعروف عن المواطن العراقي منذ القدم حتى وإن تهيأت له الفرصة لامتلاك دار مناسبة له من جميع النواحي وبالمواصفات التي يرغب بها، لا يفضل السكن بها ولا يشعر بقيمتها، الا اذا تحقق من أمر له الاولوية في اختياره، يتعلق بطبيعة معادن الناس، الذين يعيشون في البيوت المحيطة بمنزله الجديد، ولذلك دائما يقيم ويقيس مستوى البيت من خلال ايمانه بالمثل القديم الذي يقول (الجار قبل الدار).
 وفي زمننا الحالي بات محظوظا من يرزق بـ(جيرة حسنة)، بعد أن اخذت العلاقات تتدهور بتغير العادات وانهيار القيم حتى صارت البيوت مغلقة على نفسها معتكفة عن الاختلاط الا بنطاق محدود جدا، اذ لا يعلم الجار بوضع جاره جراء حجم الاذى والشر، الذي أضحت تواجهه الأسر من المقربين حولها مكانيا، وهذا بالتاكيد يتناقض مع شخصية الفرد العراقي، الذي اعتاد على نمط معين من الحياة يتسم بالكرم والضيافة والحميمية والثقة المتبادلة، إلا أن الظروف الصعبة التي تعرض لها المجتمع خلال السنوات الأخيرة، وما نجم عنها من حوادث وأعمال إجرامية واخرى غير اخلاقية وازعاجات لا تخلو من القسوة والمخاطر والخديعة دفعته للقلق وتوخي الحذر الشديد في التعامل مع المحيط حوله.
هكذا انقلبت حياتنا بعد أن كنا ننعم بالاستمتاع بتفاصيلها البريئة، ونحن نتشارك مع الجار الذي كان بمثابة الأخ والسند مسراتها وأحزانها وسط أجواء يسودها الوئام والالفة والاحترام المتبادل، حيث كانت تسكن بيوتنا الطمأنينة فنترك أبوابها مفتوحة دون اقفال او كاميرات مراقبة، أذكر أنني بعد أن غادرت طفولتي واخذت ملامح الانوثة تظهر على شكلي صرت تلقائيا (بيتوتية جدا)، حيث لا يعجبني الخروج الا للدوام المدرسي او للضروريات فقط، وقتها بدأ أفراد أسرتي باستقبال أولاد الجيران الصغار لأننا عائلة تعشق الطفولة، ومن هنا ظهرت لدي غريزة الأمومة واضحة منذ وقت مبكر، من دون أن أعي أو أشعر بذلك، فتحول بيتنا إلى روضة للأطفال عاشوا وتربوا بأحضاننا الدافئة ونشؤوا وناموا بغرفنا الآمنة، وجلسوا معنا على موائد الطعام العامرة بالحب، حيث منحناهم الحنان والدلال وكل الاهتمام، واعطونا الفرح والسعادة، وما زالت ألبومات الصور تحتفظ بذكرياتنا الجميلة معهم وبمرور السنوات اصبحوا جزءاً لا يتجزأ منا وكأنهم أبناؤنا بالفعل.