الآثار في ديالى.. تاريخٌ مفتوحٌ ومتحفٌ مغلقٌ
منصة
2022/07/05
+A
-A
احمد نجم
قبل أشهر قليلة اكتشفت بعثة تنقيب اثارية غرب مدينة المقدادية بنايَّةً آثارية ضخمة تعرف بالزندان، تعود للعصر الساساني، ولم يكن هذا الاكتشاف هو الوحيد خلال الاشهر الأخيرة، اذ جرى قبل أيام تحديد موضع مدينة (دستجرد) التاريخية والكشف عن حدودها وسورها الخارجي لتضاف التنقيبات الآثارية الحالية لـ824 موقعاً آثارياً في ديالى، التي رفدت علم الآثار والتاريخ بآلاف القطع الأثرية الضاربة في القدم، ولكن رغم وجود هذا الكم الهائل من مواقع الآثار وآلاف القطع الأثرية، إلا أن المحافظة ومنذ عشرين عاما تقريبا، غالقة لأبواب متحفها الحضاري بوجه الزائرين.
أحلام
على بعد اقل من ثلاثة كيلومترات من موقع الزندان المنقب حديثا يقف (مصطفى عامر) أحد الشباب من أهالي قرية (الجف)، متأملا الموقع وكاشفا لنا عن حلمه بأن تكون قريته الوديعة مركزاً سياحياً، يستقطب السياحة المحليَّة والأجنبية، لكن الطريق الوعر الذي يقودك من الشارع الرئيس للمبنى وحده كافٍ للتذكير بتلك الأحلام جانبا، والتحدث بواقعية والواقع يقول بأن آثار الزندان تعاني كحال المواقع الآثارية الاخرى من غربة حقيقية مع السكان المحليين.
رغم ذلك، تختزن الذاكرة الشعبية للاهالي الساكنين بالقرب من معظم المواقع الاثرية بخيال خصب وتداول واسع للأساطير والخرافات عن مختلف الكائنات الماورائية، التي تعيش بداخل تلك المواقع، ورسخت تلك القصص والحكايات في ذاكرة الأجيال وصار التقرب منها مخاطرة غير سهلة، لتكتسب تلك المواقع، ومن دون قصد حماية مجتمعية قبل أن تكون لها حماية رسمية.
متحف مهجور
يصعب على المار في شارع المحافظة الرئيس في بعقوبة ملاحظة تلك البناية القديمة المغلقة، التي تعلوها جدارية بسيطة تشير إلى كونها متحفا بسبب الكتل الكونكريتية، التي تحجبها عن الشارع، اقتربت هذه البناية من العقدين وهي تعاني من الوحشة والهجرة.
ذكر لـ(الصباح) الاستاذ احمد عبد الجبار مدير مفتشية الاثار في ديالى أن المتحف أغلق قبيل حرب عام 2003، ونقلت مئات القطع الأثرية، التي كانت معروضة فيه إلى المتحف الوطني للمحافظة عليها، ومنذ ذلك الوقت والمتحف مغلقٌ، واضاف "لا تحتاج عملية اعادة افتتاحه الا لمبالغ مالية قليلة لإعادة التأهيل، بسبب ما حصل له نتيجة تضرره من انفجار ارهابي قريب وبسبب تقادم الزمن، ورغم محاولاتنا لإعادة افتتاحه ووعود ادارة المحافظة باعادة تأهيله منذ سنوات، إلا أن لا شيء تغير على ارض الواقع، واستمرت محافظتنا بلا متحف يمثل هويتها الحضارية".
بينما اشارت الناشطة في شؤون التراث استبرق الزبيدي الى الأهمية الكبرى للمتحف في اي مدينة فهو "خطوة اساسية في طريق الاحتفاظ بالذاكرة التاريخية، وتعريف الاجيال بتاريخ مدنهم"، مؤكدة بأن فئة الشباب في المحافظة لا تعرف شيئا عن تاريخ من عاش على هذه الارض، وتستنكر الزبيدي غياب الأماكن الاثارية والتراثية المخصصة للسياحة والسفرات الطلابية، ما يضعها وزملاءها في حرج شديد عند استقبال ضيوف من خارج المحافظة، راغبين في التعرف على المواقع الآثارية.
تاريخ مفتوح
يبلغ عدد المواقع الاثارية المثبتة في ديالى 824 موقعا منها 10 مواقع لا تزال شاخصة، ومعظم ما تبقى هي تلول آثارية تمثل إطلالا لمدن قديمة مندثرة، وتعد كنوزا علمية لم تنقب غالبيتها بشكل كامل ومفتوحة على جميع حقب التاريخ.
وبحسب مدير مفتشية الاثار في المحافظة فإنه (لا يوجد كيلومتر واحد في المحافظة الا ويحتوي على موقع اثاري، فديالى بيئة جاذبة للسكان منذ اقدم العصور)، ويضيف بأن المواقع الاثرية المكتشفة، تمثل تقريبا جميع مراحل التاريخ وما قبل التاريخ، اذ عثر في منطقة حمرين على مواقع سكنية يعود عمرها لأكثر من عشرة آلاف عام.
الباحث في علم الاثار الدكتور علي احمد التميمي تحدث لـ(الصباح) عن الاهمية العلمية والحضارية للآثار في ديالى، إذ إن (مملكة أشنونا تضاهي بمكتشفاتها العمارية ولقاها الأثرية، ما اكتشف في عديد المدن القديمة مثل أور والوركاء، ورغم عدم تسليط الأضواء عليها، إلا أن مدينة مثل ميتوران تعود للعصر البابلي القديم، اما مواقع مثل تل عبادة وعياش فانها تعود للالف الخامس قبل الميلاد، مرورا بمدينة ارتميديا التي تعود للعصر الفرثي، اضافة للمواقع الكثيرة التي تعود للعصر الساساني والاسلامي صعودا).
لائحة التراث العالمي
تعمل دائرة الاثار حاليا على التقدم بطلب لاضافة موقع الزندان الاثري على لائحة التراث العالمي لتوفر الشروط المطلوبة فيه، حيث يعد طراز بنائه فريدا والبناء لا يزال قائما ومحتفظا بميزاته الأساسية, ويعود الزندان وهو من أقدم المواقع الاثارية الشاخصة في المحافظة الى العصر الساساني ويقع غرب مدينة المقدادية.
ورغم أن كلمة الزندان تعني بالفارسية السجن إلا أن استخدام الموقع كسجن بحسب الخبراء، قد جاء في فترات لاحقة من التاريخ لأن تخطيط وتصميم المبنى الضخم الذي كشف عن اجزائه العلوية قبل أشهر قليلة، تشير إلى إنشائه كحصن دفاعي، وتحدث الاستاذ احمد عبد الجبار مدير الآثار في المحافظة عن أن المبنى البالغ من الطول 502م، وارتفاعه 15م وعرضه 17م يضم 16 برجا من الجهة الشرقية طمست معالم بعضها، واستخدم طابوقها في بناء المنازل سابقا كما أنه يضم أربعة مجاميع من الأواوين، وبحسب المصادر التاريخية فإن جيوش القائد البيزنطي الشهير هرقل هي التي تسببت باثار الحرق والاضرار على الجهة الشرقية للمبنى، حين استولى على مدينة (دستجرد) العاصمة الساسانية.
الدسكرة
خلال الشهر الحالي ايضا تمكن فريق مسحي مختص من تحديد موضع مدينة دستجرد بشمل دقيق، بعد أن كان مفقودا، حيث حدد الفريق حسب بيان رسمي حدود المدينة وملامحها وسورها الخارجي بالاعتماد على مقاطعة المصادر التاريخية والادلة المادية في موقعين اثريين معروفين باسم تل بنت الامير وتل سبع قناطر، لنصل بذلك إلى المدينة التي كانت عاصمة للمملكة الساسانية الثانية وموضع اقامة الملك كسرى ومنطلق جيشه، لحين غزوها من قبل البيزنطيين عام 624 م، ويقال في بعض المصادر التاريخية إنها احتوت على الصليب المقدس الاصلي للسيد المسيح، الذي سرقه الساسانيون واسترجعه هرقل، كما أن المدينة قد دخلها المسلمون لاحقا وسموها (الدسكرة).
مواقع شاخصة ومهملة
وبعيدا عن التلال وما تمثله من اطلال لمدن وقلاع قديمة، في ديالى عدة مواقع اثارية وتراثية لا تزال شامخة بوجه الزمن ومحافظة على هيبتها التاريخية، بل إن بعضها لا يزال مشغولا حتى الان مثل مبنى السراي العثماني وسط بعقوبة المشيد في نهاية القرن التاسع عشر كمقر للمتصرفية، ثم شغله الحاكم الانكليزي وشهد عديد الاحداث المهمة خلال ثورة العشرين، ولا يزال المبنى حتى اليوم محافظا على تصميمه المعماري الفريد بشكل شبه مربع، زواياه غير حادة ومكون من طابقين وباحة داخلية كبيرة، ولا يزال مقرا لاتحاد الادباء ونقابة الصحفيين وعدد من الاتحادات ومنظمات المجتمع المدني.
وفي مدينة بهرز لا تزال (قنطرة بهرز) الواقعة على نهر خريسان والمكونة من ثلاث دعامات تقاوم اثر الزمن والبيئة، حيث تجاوز عمرها الالف عام، إذ إنها شيدت في العصر العباسي، وكانت ممرا لعبور القوافل التجارية بين بغداد وبلاد فارس، كما يعد سد العظيم الاثري أحد أهم المواقع الشاخصة في ديالى، يعود تاريخ انشائه إلى القرن الرابع للميلاد وما انشاء السد العظيم عام 1990 إلا إحياء لفكرة المهندس العراقي القديم في دراسته لطبوغرافية المنطقة، كما ذكر ذلك مدير الاثار في المحافظة، ولم يبقَ من السد الذي انتهى دوره في تنظيم إرواء الاراضي الزراعية في القرن الثاني عشر للميلاد، إلا الجانبان الايمن والايسر المشيدان على سن صخري، اما جزؤه الأوسط فقد تهدم بالكامل.
إضافة لذلك فتوجد العديد من المواقع الشاخصة الاخرى مثل خان بني سعد (خان النص) المشيد كمحطة استراحة للمسافرين والقوافل التجارية في القرن السابع عشر وجسر الوند في خانقين المكون من أحد عشر ممرا لعبور المياه والذي يعود تاريخ انشائه للعصر الساساني.
هوية جامعة
ويرى الدكتور شاكر محمود استاذ التاريخ القديم في جامعة ديالى في حديث لـ(الصباح) بأن عمليات التنقيب التي تمت في اغلب المواقع الاثارية، رغم اهميتها وفائدتها العلمية، إلا أنها لا ترتقي أبدا الى ضخامة التراث الحضاري المدفون تحت هذه الارض، منوها بأن ذلك ( جعل الارث الحضاري لديالى مبهما وحرمها من التسويق الاعلامي والسياحي الذي
تستحقه).
ولا يرى الباحث في التاريخ عمر علي عبد الخالق اهتماما حقيقيا بالمعالم الاثرية واستثمارا لها ليس فقط على مستوى المؤسسات الرسمية، بل على مستوى اجتماعي وفردي نتيجة ضعف الوعي بالدور الحضاري، الذي لعبته هذه الأرض عبر التاريخ، مذكرا بان (التراث الحضاري يعد عاملا مهما ومركزيا في طريق صناعة هوية وطنية جامعة تتجاوز الهويات الفرعية، التي أحدثت شرخا طوليا في المجتمع، لذلك فأن تدريس التاريخ الاثاري بشكل معمق في المدارس، وتعريف الطلبة بتاريخ مدنهم وبالمواقع الاثارية القريبة منهم أمرٌ لا مفر منه في طريق اعادة الاعتبار لتاريخنا
وآثارنا).
هذا بعض البعض مما تعانيه آثارنا في محافظة ديالى، ولا ندري متى يلتفت المسؤول المعني بملف السياحة لمدينة احتضنت حضارة اشنونا، التي تضاهي حضارات مدننا الأخرى، من حيث العمق التأريخي وعلو شأنها في الرقي والتطور، وسؤالنا الختامي، ألا يدرك ولاة أمر البلاد بأن السياحة
نفط دائم؟.