فعل التضاد في {نثيث الدفء} لجمال نوري

منصة 2023/01/02
...

 كمال عبد الرحمن


يكتنز (فعل التضاد) بالدهشة، ومن أهم وسائله المفارقة، التي تقوم على التضاد والاختلاف من أجل صناعة الادهاش في النص، بلا تقليد ولا تكرار، بل (بأسلوب بلاغي يقوم على التضاد، يبرز فيه المعنى الخفي في تضاد ملموس مع المعنى الظاهري، وهو أمر يحتاج الى مجهود ذهني، وكد لغوي، وتأمل عميق للوصول الى التعارض، وكشف دلالاته بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي الذي يتضمنه النص وفضاءاته البعيدة)، والمفارقة هي طريقة في الكتابة غايتها تأجيل المغزى وإثارة المتلقي عبر صوغ بلاغي يستعمل الكاتب فيه ـ أي في هذا الصوغ ـ اللغة بشكل خادع، وهي تشير على الدوام إلى انحراف ما، على مستوى منطق الفكر، أو على المستوى اللغوي، وهذا الانحراف هو الذي يحدث المفاجأة لدى القارئ، ويجعله يدرك أنه يتعامل مع لغة خاصة.

تشتغل قصص جمال نوري في (نثيث الدفء) في الغالب على إثارة المفارقة كعلامة أساسية في صناعة نصوصه القصصيَّة، فهي (ق ق ج)، وتحتاج إلى تقانات سرديَّة خاصة، قد لا تتوافر عليها (القصة القصيرة) و(الرواية). ففي قصة (العملاق) ثمة تضاد في الأفعال، ومفارقة في الأحداث، فالبطل لا يستطيع أن يقف بوجه الظلم علانية بجسمه الطبيعي، لكنّه وبعد ساعات من تناول نوع غريب من الطعام، تحدث المفاجأة: (لم يعرف بالضبط ما تناوله ليلة أمس حيث بدأت أعضاؤه تتضخم تدريجيا وبعد ساعات وجد الغرفة تضيق به فخرج الى الفناء ثم الى خارج البيت ومن حسن حظه أنها كانت ساعة متأخرة من الليل.. وبعد دقائق وجد نفسه أطول من العمارة الشاهقة التي شيدها التاجر المتصابي..)، فالمفارقة هي عدم قدرة البطل على مواجهة رموز الظلم بشكل مباشر وواقعي، فتتم مواجهتهم بشكل آخر عن طريق التخييل الافتراضي، وهي محاولة نفسية ذاتية تشبه الحلم لتحقيق شيء من العدالة التي يعجز الواقع عن تحقيقها.

واستنادا إلى مقولة فلوبير (ما يعذبك، يعذب أسلوبك في الكتابة) يقرر أدونيس في ثلاثيته (القاهرة التي علمتني) أن معظم النصوص التي تكتب اليوم احتفاء بالراهن، العادي، اليومي، تفتقر إلى (العذاب) بما يعني تبنيه الصريح لموقف (فكري/ جمالي) مضاد من راهنية وعادية وعرضية النصوص الجديدة، في محاولة كما يبدو لمفهمة متوالية (اليومي) واختباره بوصاية ابوية أزاء (الميتا ـ لغوي) كما تجدد أيديولوجيا النصّ القصصي انبعاثاتها بصيغ مختلفة، للإلتفات إلى نوع خاص من «الإنساني» الذي يجدد مستوجبات التطور في  السرد، فالقاص الذي لا نرى في كتاباته عذابا ــ برأي أدونيس ـ إنما يقول ما يقول بشكل إعلامي إخباري، ولا يكون مبدعا، بل هو مجرد ناقل أو راوٍ ــ برأيه ــ  وهذا ما نراه في قصّة (أنفاس)، فهي قصة مجبولة بالألم، وبحاجة إلى رئة جديدة أخرى تتنفّس من خلالها، وحينما تفعل ذلك، فإنَّ تلك الأنفاس تكون أنفاسها الأخيرة، والمفارقة أن الإنسان يموت حينما يحصل على ما يريد: (كانت تحاول جاهدةً أن تسرق الهواء كي تملأ رئتيها».. «مدت يدها وأمسكت بكفه ملتمسة شيئا من القوة التي خسرتها بعد أن خذلها القلب وأخفق في مواصلة نبضاته المنتظمة، قالت: لا تتركني.. أجابها بحرقة هو يشعر بكفها الناحلة تضغط على أصابعه.. تحركت ظلفة النافذة وكذلك غصن شجرة الزيتون بعد أن هدأت الأنفاس واسترخت كفها الناعمة بين كفيه..). تحدث المفارقة أو فعل التضاد بطلب الموت عن طريق الحياة، فهي تعرف أنّها لن تستطيع الاستمرار بهذه الحال، ولكنّها تتمنى أن تعيش بين يديه لحظات ثم تموت، والموت هنا يشير الى حياة ما تنبعث من الألم وتأخذ كينونة أخرى في عالم ما.

والثنائيات الضديَّة في النص تشكل (تعالقا/ تداخلا/ تجاذبا/ تنافرا) وهي بهذه الطريقة تعبر عن جدليَّة (الشيء وضده)، أي أنّها تصنع جدليتها الخاصة، والجدليَّة هي تصارع فكرتين متضادتين أو متعاكستين في المعنى، تنتج عنهما فكرة ثالثة تحتاج إلى فكرة جديدة تصارعها وهكذا والثنائية تمنح النص حياة جديدة، تعتمد على صور مغايرة لما تحمله نصوص أخرى، ففي قصة (الكرسي) صورة تقوم على المفارقة، فالطاغية يشتم الشعب، والشعب يصفق للطاغية ويستذكر تاريخه المجيد: (من على كرسيه الوثير ألقى نظرة الى المحتشدين حوله وخلفه وأمامه.. تلمس مسدسه الثقيل ثم شتمهم جميعا من دون استثناء.. حمّلهم كل التقصير الذي أرهق المدينة وأخرج نفسه كشعرة من الصديد.. هللوا ورحبوا وصفقوا وقبلوا حذاءه..)، فالفعل ورد الفعل هنا قائمان على جدلية التناقض والتضاد، وهذا يشكل نوعا من المفارقة العميقة في المعنى، فهو نص مكثف، له دلالات واسعة، لأنَّ التضاد هو التنافر، الذي يصنع نقطة فراغ يتخلخل بسببها النص، وذلك بتلاقح واصطدام هذه الثنائيات، حيث من صراع الشيء وضده، تظهر لنا مفارقة سرديَّة، وعلى القارئ أن يملأ هذه الفراغات، فالتضادات تصنع الإيقاع الداخلي الذي هو الصوت الداخلي (اللغوي) للنص، أي أنّه غير ملموس، والثنائيات الضديَّة تبعثر القارئ، لأنَّها تعتبر منعطفات تثير الانتباه، ويحس عندها باللامعقول المبدئي، لأنّه استطاع جمع ما لا يجتمع، والتنافر والتضاد والاختلاف والمفارقة هي عائلة الادهاش واللا متوقع وصناعة المفاجأة، ففي قصة (البحر) تبرز حاسَّة التضاد من خلال فعلي (الموت) و(الحياة)، حيث الصراع على البقاء بعد غرق القارب، يبلور شعورين، الأول: الاستسلام واليأس، والثاني: السباحة والنجاة: (لم يصمد القارب المثقل براكبيه أكثر من عشر دقائق، شهد فيها على أمنياتهم العديدة وهم يحلمون بالضفة الأخرى التي ستنتشلهم من فواجع مدنهم الكابية المحكومة بالقهر والموت المجاني.. كانت الأمواج الهائلة تتقاذف القارب صعوداً وهبوطاً غير مكترثة بالصرخات العالية التي تلاشت مع انقلاب القارب). وكلما ازداد عدد الجثث التي صارت تطفو على سطح الماء، فإنَّ العزم يتوقد ويصر أن يصل إلى الضفة الأخرى بسلام، فكأنما الجثث هي مصدر قوته وإصراره على النجاة، من دون أن يكون لها أي تأثير على تحقيق هدفه في النجاة.

لقد قدم القاص جمال نوري في مجموعته (نثيث الدفء) نصوصاً سرديَّة مائزة ورائية، وهي تكتنز بمؤهلات الـ (ق. ق. ج) وتقاناتها وعناصرها الفنيَّة فحققت عناصر نجاحها وتفوقت وحسبها هذا التفوق.