متخلفٌ أم مختلف ؟

آراء 2023/01/10
...

 د. مزهر جاسم الساعدي

أزعم أن عالماً متعدد الثقافات والهويات الفرعية والأيدولوجيات والمعتقدات، لا يمكن قيادته بأنموذج واحد صافي النقاء والأصالة كما يدعي البعض، فالوقائع والأحداث منذ مطلع القرن العشرين إلى يومنا هذا قد برهنت بما لا يقبل الشك على أن جميع النماذج، التي كان يروج لها بكونها صالحة أممياً قد فشلت، وقد التفتت الأمم المتحدة في اتفاقاتها وصكوكها على هذه القضية، فضمنتها فبما يعرف بالتبيئة الوطنية، لنفاذ تلك المواثيق والصكوك وصارت حدودا وسقوفاً يمكن الاحتكام اليها.

من هنا عملت بعض البلدان على تقدم مجتمعاتها على وفق استحقاق متطلبات التنمية والرفاه في مجالات التعليم والصحة والبيئة والسكن، فضلا عن الدخل المادي الجيد للفرد مع الاحتفاظ بخصوصيتها وموروثها الثقافي الحضاري.

لا أدرى ما هي المعايير التي تعطي الحق لبعض الدول بأن تصدر نفسها بكونها الأنموذج الإنساني الأمثل، ولها حق الوصاية والقيمومة على الآخرين؟ ولماذا تعتقد أن من لا يتبعها من الدول هي دول عنصرية ومتخلفة؟ ولماذا تهاجم بسيل كبير من العداء، ليس لشيء سوى انها تحتفظ لنفسها بحق المحافظة على النسق التربوي والأخلاقي دونما اتباع. 

قد يقال إنَّ دول (الانموذج) قد وصلت إلى ما وصلت إليه، بكونها دولاً ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وتصون كرامته وتعمل على رفاهيته، ولذلك تجد في أنموذجها فريدا ومتكاملا واجب الاتباع، غير أن هذا الانموذج الذي تدعيه تلك الدول ربما هو وسيلة للتغطية على ما هو أقذر وقذر، بكونه يرتكز بصلابة على محو الابعاد الأخلاقية والروحية في تلك المجتمعات كما يقول البعض، وتذهب (الدول التي تتعرض للنقد) إلى ما هو أكثر من ذلك في نقض ادعاءات دول الانموذج الأمثل حين تأتي بشواهد عديدة لممارستها اللا أخلاقية الصارخة في بلدان أخرى. 

لعل الشاهد في ما تقدم هو ما حدث في الأيام الاخيرة من السنة التي انصرمت، اذ شهد العالم كله اهتماما ملحوظا بمجريات المونديال الكروي، بكونه أول تظاهرة عالمية تخرج من حاضنتها التقليدية وتقام في الشرق الأوسط وفي بلد عربي تحديدا. 

اذ قدمت الدولة المضيفة للعالم كله أفضل نسخة من التطور التقني والعمراني، كما صرح بذلك المشرفون الدوليون على إقامته، وذهب البعض إلى صعوبة تكرار هذه النسخة في أي بلد اخر.

لم يشفع لها كل ما انفقت من أموال ومن ابهار في التنظيم، حين رفضت بعض الممارسات التي تعتقد انها لا تنسجم وثقافة مجتمعها، ودعت القادمين اليها إلى احترام قانون ونظام البلد، فضلا عن احترام هويتها الثقافية وخصوصيتها المجتمعية، وبذلك تكون قد قدمت أنموذجا إنسانيا موازيا يتماها مع العديد من الدول والثقافات.

 الغريب أنها وصمت من قبل العديد من الدول والقنوات الإعلامية، بكونها دولة عنصرية لا تحترم حقوق الانسان وهوجمت بألفاظ أقل ما يقال عنها بكونها غير لائقة. 

وعملت بعض الدول على تشويه الأنموذج المضاد الذي قدم من الدولة المضيفة، وصارت تبحث عن جزئيات بسيطة لتنال منه، ومن ثم نعته بكونه انموذجا متخلفا وعنصريا.

الحق أقول: ما أروع هذا التخلف الذي يقدم كل هذا الجمال الذي أبهر العالم.

 وأعترف بأني من مناصري هذا التخلف واتمسك به كثيرا، لأني ببساطة أفرق جيدا بين أن تتمسك الدول بموروثها الثقافي والحضاري الذي يعني (كل ما يميز أمة عن أمة من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والملابس والتمسك بالقيم الدينية والأخلاقية)، وبين أن تمسخ كليا تلك الهوية الحضارية والثقافية، فبلد مثل اليابان ينماز كثيرا بالعمران والتقدم التكنولوجي غير، انها لم تنسلخ في يوم من الأيام عن ثقافتها وموروثها وعن نسقها التربوي، فأنشأت جيلا قادرا أن يكون أنموذجا خاصا له خصوصيته، وعلى الرغم من ذلك لم تدع أنها الانموذج الأمثل للعالم، فإن كانت في نظر الغرب أنها بلد متخلف، لأنها لم تأخذ منهم الوصفة السحرية فما احلاه من بلد، وإن كان المواطن الياباني يوصم بكونه رجلاً متخلفاً، فنعم هذا الرجل ونعم ما يوصم به. 

وعلى هذا المنوال يمكن قياس التطور التقني والعمراني للصين الذي أذهل العالم كله وغيرها من البلدان.

وأعترف أني متمسكٌ بهذه العنصرية التي وصمت بها هذه الدولة، بكونها اعترضت الترويج لايديولوجيا (الثورة الجنسية الكبرى)، التي يراد اشاعتها بين البلدان، على الرغم من عدم الاتفاق عليها داخل تلك البلدان التي تروج لها.

بل والابعد من هذا أن في العديد من تلك البلدان هناك حراك كبير جدا على رفض تلك الأيديلوجيا، بكونها تسبب التصدع للمجتمعات وتفككها اجتماعيا.

إنَّ المؤشرات جميعها تنبئ بالتصادم الثقافي بين البلدان، الذي تسعى بعض الدول إلى عودته بشكل محموم لأغراض شتى، وقطعا سيشفتح بعودته أبوابا واسعة إلى التمترس وعدم قبول المختلف أيا كان منجزه الحضاري.

لعل فكرة تصدير الأنموذج الأمثل إلى العالم، بغض النظر عن المتبنيات الثقافية والحضارية للبلدان، هي دكتاتورية جديدة ستفضي إلى توسيع الهوة بين بلدان الشرق والغرب، ويضيع معها كل الجهد الذي بذل في السنوات المنصرمة من أجل التلاقح الحضاري.