ترجمة: حيّان الغربيّ
يرى توماس ريكس في كتابه الموسوم {شن حربٍ ناجحة} الصادر مؤخراً عن دار فارار وشتراوس وجيروكس في 448 صفحةً، أن الحركة تميّزت بالذكاء الستراتيجي والتكتيكي الذي وسم الحملات العسكرية الكبرى. توجّه بول كونور، مفوض شرطة برمنغهام في ألاباما، برسالة إلى منظمة كو كلوكس كلان العنصرية: {بحق الله، إذا كنتم ستفعلونها، فافعلوها بالشكل الصحيح}. ذلك الأحد من شهر مايو/ أيار عام 1961، تعهد المفوض بتأخير أفراد الشرطة ما بين 15و20 دقيقة لمنح الفرصة لرجال المنظمة لتنفيذ هجوم على حافلة لنقل الركاب، وباستخدام بالعصي والهراوات.
توجّب عليهم "إنجاز المهمة بحيث يبدو الأمر وكأن كلباً مسعوراً انقضّ على ركّاب الحافلة". وهكذا، لم يتوانَ الإرهابيون عن استغلال تلك الفرصة أيّما استغلال.
كيف يمكن للمرء أن يتحضّر لمواجهة هذا المستوى من العنف؟ كان ركّاب الحريّة يعلمون تمام العلم بأنهم قد يقتلون، وقد كانوا من المتطوعين الذين استقلّوا الحافلات في شتى أرجاء الجنوب الأميركي لإنفاذ إلغاء الفصل العنصري بين ركّاب الحافلات بشكلٍ عمليّ.
كان القائد في حركة الحقوق المدنية، جيمس بيفيل، الذي أرسل هؤلاء المتطوعين على متن الحافلات، قد طلب من كلّ واحدٍ منهم أن يكتب كلمة تأبينه بنفسه بحيث يتسنّى لبيفيل التأكد من مدى قناعتهم بما يفعلونه، وقد توجّه إليهم بالقول: "إذا تعذّر عليّ أن أشرح لذويكم في سبيل ماذا تموتون، فلن أرسلكم".
يضع توماس ريكس في كتابه التأريخي الجديد لحركة الحقوق المدنية، "شنّ حربٍ ناجحةٍ"، إصبعه على تحدٍّ مؤلمٍ كان قد درسه خلال سنوات عمله كمراسل حربيّ لصحيفة واشنطن بوست، وهو تحدّ يواجهه القادة العسكريون حين يتوجّب عليهم تحضير أنفسهم لإصدار الأوامر لجنودهم بتنفيذ مهام قد تكون انتحاريةً، ويكتمل التحدي بامتثال الجنود للأوامر.
يستقصي ريكس الفترة الممتدة بين العامين 1954 و1968، مبيّناً التوازي القائم ما بين حركة الحقوق المدنية وأي حملة عسكرية ظافرة، ومحدداً نقاط القوة المشتركة بينهما من حيث تشديدهما على التدريب والانضباط والإمدادات اللوجستية والتخطيط والستراتيجية.
وهكذا، ينجز المؤلّف كتابه الغريب والقيّم الذي نتناوله في هذا المقال. وهو غريب لأن التناظر قد يكون مصطنعاً وغير ملائمٍ (فهل تصح مقارنة الأطفال الذين تطوعوا للمشاركة في المسيرة وزُجّوا في السجن بالأطفال المجندين؟).
ولكنه قيّمٌ أيضاً إذ يعيد المؤلّف من خلاله التركيز على حركات الاحتجاج والخطابات في الماضي، بما يميّزها من صرامةٍ وصبرٍ ورؤىً أسهمت في نجاحها. يشير ريكس في كتابه إلى أن: "حركة الحقوق المدنية كانت حركةً خلاقة في الغالب، بيد أنها نادراً ما اتسمت بالعفوية. إذ لم يكتفِ أعضاؤها بالتجمهر في الشوارع وانتظار ما سيحدث".
وغالباً ما يجري استذكار الحركة على نحوٍ خاطئ، إذ يشار إليها بوصفها حركة "مقاومة سلبية" تكتفي بتلقّي الضربات مثلها مثل أولئك الركّاب الذي حطّوا رحالهم في برمنغهام. غير أنها، في الواقع، كانت حركةً هجومية شرسة، أرهبت الرئيس جون كينيدي، وشقيقه روبرت، النائب العام، كما بثّت الذعر في صفوف البيض والمعتدلين من السود. لعلّه من الأجدى أن ندعوها "حركةً نضالية سلمية"، بما يعني مواجهة أي هجوم بصلابةٍ ورباطة جأش وبفعلٍ مقابلٍ سلميّ.
تطلّب تعلّم هذا الانضباط إقامة ورشات للتدريب على اللاعنف مما كان "الجيش الأميركي ليدعوه بالتدريب والتلقين المكثّف" على حدّ تعبير ريكس. كان جون لويس من أوائل المتدربين، وهو ابن مزارعٍ من ألاباما قيض له أن يغدو عضواً في الكونغرس في وقتٍ لاحق. خاطبه مسؤول الشرطة المحلي العنصري: "ألم تسمع ما قلت لك؟"، بعد أن أمره بالتراجع من أمام المحكمة خلال مواجهة حامية الوطيس في سلما، بألاباما، عام 1965. "ألم تسمع أنت ما قلت لك"، ردّ عليه لويس بالمثل، مردفاً: "نحن لن نتراجع". ينوّه ريكس إلى أن "ردّ لويس هذا بعيدٌ كل البعد عن السلبية".
وهكذا، يخلص المؤلّف إلى أنه ينبغي على القوّات المسلّحة أن تتعلّم الكثير من حركة الحقوق المدنية، فانفتاحها على الحوار الداخلي، وحساسيتها تجاه مشاعر السكّان المحليين، وتركيز اهتمامها على الهدف النهائي، وتوحيد مكتسباتها، جميعها أمورٌ كانت لتساعد القادة العسكريين الأميركيين في العراق، على سبيل المثال لا الحصر.
بيد أن مسألة نجاح الحركة تعيد تسليط الضوء على الحدود التي يتعذر على التناظر المذكور أعلاه أن يتجاوزها.
لا شكَّ أن أسهم الكتاب كانت لترتفع لو أضاف المؤلّف فصلاً يشرح فيه الفوارق بين الحرب والحركات النضالية السلمية. فبخلاف الكثير من الحروب، لم تكن حركة الحقوق المدنية تقوم على مبدأ ربح طرف على حساب طرفٍ آخر على الإطلاق، لا بل عُمّمت المكاسب التي حققتها على
الجميع.
فمن بين القناعات الجذرية التي تمحورت حولها الحركة هي أن مناوئيها هم من البشر الذين يستحقون التعاطف.
توجّه قادة الحركة إلى متطوعيها بالقول: "انظروا في أعين مهاجميكم، تخيلوهم أطفالاً لما يتعلّموا الكراهية بعد". لم يكن هدفهم النصر يوماً، وإنما تحقيق العدالة والمصالحة.
لعلّها عبرةٌ جديرةٌ لا بأن تستخلصها الجيوش والحركات التي تنظم عبر الإنترنت وحسب، وإنما سائر الجماعات السياسية في الولايات المتحدة بصورةٍ عامة أيضاً.