جواد سليم.. رساماً مفكراً
علي إبراهـيم الدليمي
في العام 1961، صاغ جواد سليم جوهرته القيمة (نصب الحرية) الشامخة في قلب بغداد، والذي اختزل الفنان الراحل (إسماعيل فتاح الترك) تجربة جواد ونصبه الخالد، بجملة بلاغية استشرافية عندما قال إن: النحت العراقي سيمر من تحت {نصب الحرية}، ليختم بذلك مسيرته الفنية برحيله يوم 23 /1 من العام نفسه.
بعد أن عاد سليم من دراسته إلى العراق، طرح في الوسط الفني العراقي خلاصة الأفكار والقيم الجمالية الجديدة والآراء المتطورة في مفهوم الفن، التي اكتسبها خلال رحلته تلك فكان لها تأثير كبير في تطور الحركة الفنية في العراق.
حيث فكر في تكوين تجمع فني للفنانين حصراً في مدينة بعقوبة على غرار ما شاهده في إحدى القرى الفرنسية في باريس، عندما كان يدرس فيها من العام 1938، هذه القرية الكبيرة والجميلة التي زارها أيضاً أغلب الفنانين العراقيين حينذآك، خلال دراستهم أو سفراتهم الخاصة إلى فرنسا، وكان لهذا (المرور) أثر عميق في تحسيس أهل المدينة بالفن التشكيلي.
أراد أن يحقق حلمه ذلك، لصالح المجتمع كافة، من أجل بناء ذائقة فنية للجميع ابتداء من الفنانين أنفسهم حتى أصغر عراقي عمراً. هكذا هو سليم الذي بدأ رساماً متمكناً، منذ أن تعرف على فائق حسن في محلة سكناهما، ومنذ أن تعرف على الرسام عيسى حنا في مدرسة المأمونية الابتدائية، حيث يجمعهما الحس الطفولي الخالص بحب الرسم.
ومن هذا المنطلق المبكر خرج الزميلان ليكوّنا أول "مرسم" طلابي في مدرسة ابتدائية لم تعرف في وقتها فيه المدارس العراقية هذا التقليد الفني. وكان هذا المرسم يركن في زاوية صغيرة تحت السلم، حيث انطلقت أولى لمسات أنامل سليم الصغيرة في الرسم إلى النور.
وفي بيته حاول مع صديقه عيسى حنا لأول مرة أن يجربا الرسم بالألوان الزيتية وكانت تجربة فاشلة.. فما كان من والده الحاج سليم الذي كان هاوياً للرسم إلا أن يرشدهما إلى بيت الفنان المعروف "عبد القادر الرسام"، ليعلمهما طريقة الرسم بالزيت. فقد وجد جواد في الرسم والتخطيط والدراسة الملونة مادة سهلة لطرح أفكاره وآرائه بعكس النحت الذي كان يحدده بسبب طبيعة المواد الوسيطة المستعملة. وكانت دار عائلته ملتقى الفنانين العراقيين والبولونيين مثل: جوزيف ياريما، وماتوشاك، وجابسكي ومدام ستن لويد، وكنت وود... فكل هذه الظروف الملائمة ساعدته على مواصلة بحثه الفني، فضلاً عن وجوده في لندن ساعدته في مواصلة الرسم.
قسمت أعماله (حسب مراحلها وأهميتها) إلى ثلاث مجاميع تميزها ثلاثة أساليب فنية رئيسية مختلفة لم تكتمل فيها الرؤية الخاصة والشخصية المتميزة إلا على النطاق المحلي، قياساً إلى ما طرح من أعمال في الوسط الفني آنذاك.
الأولى: التي عرضها في معارض وتجارب جماعتي الرواد، وجماعة بغداد للفن الحديث والتي تمثل مناظر طبيعية أو وجوهاً شخصية "بورتريت" فكانت لا تتعدى تجارب الانطباعيين وما بعد الانطباعية.
الثانية: فيمكن حصرها في مجال التأثر بمدارس فنية معروفة منها التكعيبية والتجريدية الهندسية أو التجريدية المطلقة كما في لوحاته (أطفال يلعبون، القيلولة، البستاني، الكوفة، بغداد).
الثالثة: وهي الأكثر أصالة باعتبارها تعكس فكره الحقيقي في الرسم وتحمل قضيته فهي الأعمال التي حاول فيها استلهام التراث العربي وبشكل خاص التراث البغدادي تكنيكيا وشكلياً، أي الاستفادة من العناصر الأساسية في تكوين اللوحة عند يحيى الواسطي على سبيل المثال، وهي تمثل البداية السليمة للانطلاقة الجديد في الفن العراقي، وعلى الأخص لدى شباب الفنانين ويعود الفضل في ذلك لذكائه الفذ وقابلياته وما قدمه من أعمال جميلة ورائدة اعتبرت الأولى من نوعها في العراق كلوحاته المعروفة: (مجلس الخليفة، مكر النساء عيد الشجرة).. التي لا يزال العديد من الفنانين العراقيين يستلهمون ملامحها، والتي نطلق عليها بـ (المدرسة البغدادية).
وفي تلك الفترة أنهى جواد دراسته الثانوية وأرسل في بعثة لدراسة النحت في باريس، للعام 1938 – 1938، والدراسة مساءً وهناك في معهد الفنون الجميلة العليا "البوزار" كان بالتخطيطات والانطباعات عن مشاهدته ودراسته على يد الفنان الكلاسيكي "كاومونت" ثم عاد الى بغداد ليسافر ثانية إلى روما، للعام 1939 – 1940، ويتتلمذ على يد الفنان "زونيلي". وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية ودخلت إيطاليا في ساحتها. أضطر جواد للعودة إلى بغداد.. وفي هذه الفترة كان بدون عمل وكانت مبادرة ساطع الحصري الذي كان مديرا للآثار العامة آنذاك بدعوة الفنانين العراقيين العائدين من الخارج للعمل في المتحف العراقي لصياغة وترميم الاثار القديمة فرصة كبيرة للقاء بالتراث العراقي العظيم، حيث التحق جواد للعمل في المتحف واستطاع أن يدرس النحت العراقي القديم عن قرب وليطلع على مخطوطات الواسطي لأول
مرة..
لقد أصبح فن جواد سليم بفعل وعيه السياسي والاجتماعي والتاريخي وقدرته على التقاط ورصد الحس الشعبي بمثابة كتاب مفتوح أمام الجمهور، لقد كان فنه محاولة لنقل الفن من الصالونات ووضعه في مواجهة الجماهير الواسعة، ولذا لم يكن غريباً أن يتحول (نصب الحرية) الشامخ إلى لافتة عريضة مقروءة أمام الناس. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية سافر جواد، إلى لندن للعام 1946 – 1949. حيث أكمل دراسته الفنية هناك وعاد إلى بغداد ليدرس النحت في معهد الفنون الجميلة.
كانت هناك أراء صائبة جداً في موهبة وطاقة الفنان، بأنه سيكون مشروع (نحات كبير) بدلاً من (رسام) رغم أنه كان رساماً بارعاً وممتازاً. بصفته أكاديمياً أو تعبيرياً، ففي مايس من العام 1943 كتب القاص غانم عبد الله مقالة في جريدة "الأخبار" عن (المعرض الربيعي لجمعية أصدقاء الفن)، الذي شارك فيه نخبة متميزة من الفنانين، أعضاء الجمعية، وفي المقالة انطباعه الشخصي عن مجمل أعمال المعرض، بما فيها أعمال جواد سليم: "كانت تماثيله أحسن من رسومه، وحبذا لو انصرف إلى النحت وحده، وأبرز لنا معروضات كثيرة من هذا الفن الذي ليس له إلا مقام ضئيل عندنا".
وفي تشرين الأول من العام 1953 نشر الفنان الرائد عطا صبري مقالة بمجلة (الأداب) اللبنانية عن (المعرض الفني الثالث في المعهد الثقافي البريطاني في بغداد) الذي شارك فيه سليم بثلاث لوحات، هن: "الهندية"، و"الأكواخ" و "الحيدرخانة". قال فيه: ".. إن جواد سليم كنحات أول في العراق في أشد الحاجة إلى الاتجاه كلياً نحو النحت، حيث ينفتح أمامه هنا أكثر من أي مكان آخر، ذلك أن المواضيع ما تزال غير مطروحة حتى الآن، والميادين الفسيحة والفارغة في شوارع بغداد لا تزال في انتظار النحات الموعود، الذي سيجعل الحياة تدب فيها، لتمسي ملتقى الناس ومتنزه سكان العاصمة".
كانت هذه بعض من ملامح سليم مع فن (الرسم) الذي تركه، ليتخصص ويتفرغ بفن (النحت) ويبرز فيه بشكل كبير ومذهل بأعماله الشاخصة حتى يومنا هذا..
لقد استحوذت لورنا زوجة جواد سليم، معها في سفرها، بعد وفاته، عدداً كبيراً من التخطيطات والرسوم على أساس أنها عائدة لها، وقد فاتحت لورنا، الجهات المختصة، حينذآك، عن طريق المركز الثقافي العراقي في لندن لتبيع للعراق أعمال زوجها جواد التي تحتفظ بها ومنها على سبيل المثال بورتريت للورنا وهي تلبس الزي الهاشمي، علماً أن هذا البورتريت من أفضل وأشهر أعمال جواد وتتمثل فيها بدايات تأثير يحيى الواسطي عليه وامكانية الافادة من التراث العربي عموما، حتى أنه قد خط باسم (لورنا) بالحرف العربي مقلوبا.. وقد طلبت لورنا مقابل هذه التخطيطات والأعمال مبالغ طائلة. في حين أن هذه الأعمال - في حقيقة الأمر- لا تعود للورنا كملك شخصي لها، وانما تعود ورثتها لعائلة جواد أساساً، فضلاً عن عائديتها للشعب العراقي.
لقد ولد جواد سليم في 15/3/ 1920، وتوفي في 23/1/1961، أي في عقده الرابع من حياته وهو في عنفوان الشباب، وأتم ألقه المتميز وقمة نضجه الإبداعي، من خلال ما قدمه من عطاء مثمر وثري كبير في الرسم والنحت.. مات وهو يحمل في عقله وقلبه مشاريع فنية فكرية كثيرة لا يعلمها إلا الله... لربما تغير المشهد التشكيلي العراقي كثيراً.