الانعتاق ليس فيلمًا عن الظهر المحروث بالسّياط
باسم سليمان
يذكر جوناثان غوتشل في كتابه؛ الحيوان الحكاء، بأن إبراهام لينكولن، قد قال للكاتبة هارييت بيتشر ستو صاحبة رواية كوخ العم توم: {إذن، أنت المرأة الصغيرة مؤلفة الكتاب الذي أشعل الحرب الأهلية}.
صدرت هذه الرواية عام 1852 وبعدها بسنوات قامت الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب.
أعلن لينكولن في الواحد من كانون الثاني عام 1863 أنّ جميع العبيد في الولايات الانفصالية؛ هم أحرار. التقط العبد جوردن هذا الصوت، وقرّر الهرب باتجاه القوات الاتحادية، لكي ينال حريته، وبعد عشرة أيام من الهرب المضني تحت وقع نباح كلاب أسياده البيض ورصاصاتهم، وصل إلى أحد معسكرات الاتحاديين في باتون روج في ولاية لويزيانا. خضع جوردن للكشف الطبي، قبل أن يلتحق بالجيش الاتحادي، وعند الكشف على ملاءمته للخدمة العسكرية صُدم الأطباء بمنظر ظهره، الذي يشبه أرضًا محروثة بشكل عشوائي. لقد كانت تلك الأثلام من آثار السياط التي مزقت ظهره في مزرعة سيده الأبيض في الجنوب الأميركي، حيث كان يعمل في حقول القطن والبصل. تحوّلت هذه الصورة لأيقونة دعائية سياسية في الحرب بين الشمال والجنوب.
حاز ويل سميث جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم الملك ريتشارد عام 2022 الذي يصوّر صراع والد لاعبتي التنس العالميتين سيرينا وفينوس ويليامز من أجل أن يؤمّن لهما الظروف المناسبة كي يصلا إلى عرش لعبة التنس. وبعد ذلك بقليل قام ويل سميث بصفع مقدم جائزة الأوسكار بعد أن تنمّر على زوجته! لكن، ما الداعي، لذكر كل ما تقدّم أعلاه في مناقشة الفيلم الجديد Emancipation/ الانعتاق؟ الذي يعرض حاليًا في صالات السينما والمنصات الرقمية، وهو من بطولة ويل سميث، والذي يستند إلى قصة حقيقية تعود إلى جوردن صاحب الظهر المحروث بالسياط، والذي انتشرت صورته إبّان الحرب الأهلية الأميركية، وما بعدها، كرمز على فظاعة العبودية. لا يملك التاريخ إلا النزر اليسير عن سيرة المنعتِق جوردن والذي أصبح في فيلم Emancipation يُدعى بيتر بإشارة إلى القديس بطرس، والذي يلعب دوره الممثل ويل سميث تحت إدارة المخرج أنطوان فوكوا وسيناريو ويليام كولاج، حيث شارك ويل سميث كأحد المنتجين.
يعرض الفيلم حكاية بيتر الذي يفرّ من سيده فاسِل الذي لعب دوره بن فوستر، والذي كان قد تعهّد تأمين العمال السود لإنشاء سكّة حديدية تنقل على قضبانها المدافع الكبيرة التي ستكون عاملًا حاسمًا في الحرب بين الشمال والحنوب. وفي خضم هذا الجحيم يسمع بيتر بأنّ لينكولن أعلن أنّ كل عبد هارب من الولايات الانفصالية، سينال الحرية. تلتقط أذنا بيتر كلمة الحرية، ويبدأ هروبه من المعسكر عبر مستنقع يمتد على مساحة 40 ميلاً أقل ما يواجهه فيه من مخاطر التماسيح، وكل ذلك تحت وقع مطاردة فاسِل له مع مساعديه وكلاب مدربة لاقتفاء الأثر، إلى أن تنتهي القصة بمقتل فاسِل على يد أحد الجنود السود المحرّرِين وينجو بيتر. هذا المختصر سنجده في كل قصص الهروب التي جرت في ذلك الزمن القبيح! فما الذي يميّز قصة بيتر عن غيرها؟ كقصة فيلم "اثنتي عشرة سنة من العبودية"، التي تُجسد قصة سولمون نورث الذي اختطف من الشمال وبيع كعبد في الجنوب، أو جانغو الحرّ، إخراج تارانتينو؟ يأتي الجواب من خلال ويل سميث الذي قال في إحدى اللقاءات معه، بأنّ القصة لا تتعلّق بالهروب، بل بأنّ بيتر أصبح حرًّا، عندما آمن يذلك؟ هذا الكلام العميق لويل سميث لا تجد له أثرًا في الفيلم، على الرغم من المشاهد المؤثِّرة التي يظهر فيها بيتر يغسل قدمي زوجته قبل أن يبيعه سيده إلى فاسِل، أو في جدله مع أحد العبيد المسجونين الغاضبين من طرح بيتر عن إله رحوم، بينما الواقع يقدّم إلهًا راضيًّا بكل هذا العذاب المصبوب على أجساد العبيد. وحتى عندما سمع بيتر هاتفًا يناديه باسمه في جحيم المستنقع وكأنّه صوت الإله يضيء له ظلمات المستنقع حتى يصل إلى النور. تظلّ تلك الأحداث غريبة عما قصده الفيلم! فالمطاردة التي أحسن المصوِّر روبرت ريتشاردسون في إدارة زوايا التصوير فيها، تأخذك بعيدًا عن معاناة عبد هارب إلى قصة مشوّقة لمغامر يخوض معركة مع تمساح وينتصر عليه، ومن ثم يجد قاربًا يبحر عبره في المياه السوداء للمستنقع. لربما يعود ذلك إلى أنّ المخرج أنطوان أراد تقديم مطاردة هوليودية معتمدًا على سطوة تاريخ ويل سميث في الأفلام الحركية: رجال في الأسود، وأنا أسطورة، بالإضافة لشخصية الأب، سواء في الملك ريتشارد، وأنا أسطورة! وذلك من أجل إظهار قوة الإرادة في شخصية بيتر عندما أدرك معنى الحرّية، مع أنّ هذا المنحى سيؤدي إلى تمييع شخصية العبد الهارب نحو الحرية عبر تحويله إلى بطل إثارة هوليودية! لكن السؤال الذي يطرح، هل كان سميث موافقًا على هذا المقتل الإخراجي، الذي سيعيد إلى الأذهان صورته كبطل هوليودي لأفلام الحركة وإن كان سيكرّس صورة الأب والزوج المدافع عائلته؟ لربما تكون الإجابة ظنيّة، وذلك بأن تساعد سيرة نضال العبد من أجل حريّته على جبّ صورة الصفعة التي ما زالت طرية العهد، وما سببت لويل سميث من مشاكل وعقوبات، حتى أنّه صرّح، بأنّه لا يعرف إذا كان المشاهدون مستعدين لرؤيته من جديد بعد تلك الصفعة! إذن ويل سميث ومخرج الفيلم كانا مدركين للربط الذي سيحصل بين شخصية بيتر وشخصه ويل سميث الحقيقي! وهنا نسأل، لقد كان بيتر هاربًا من مستعبديه نحو الحرية، أمّا ويل سميث، فهل كان يأمل من صورة جوردن أن يقال له في المستقبل: هذه هي الصورة التي أدخلت صفعتك في النسيان!
قد نكون متجنّين في هذا التحليل على الممثّل ويل سميث، وخاصة أنّ إرهاصات التحضير للفيلم قد بدأت عام 2018، قبل الصفعة المدوية على مسرح الأوسكار، لكن بمقارنة بيتر/ ويل سميث مع شخصيات أخرى في الفيلم نجدها أكثر إقناعًا في التعبير عن دورها، فبن فوستر عندما سرد قصة مقتل الخادمة السوداء على يد أبيه، تلك الخادمة التي ربّته بعد موت أمّه وعلمته الكثير، كان قادرًا على إيضاح كيف تحوّل ذلك الطفل الذي كان يرغب بأن تجالسهم الخادمة على المائدة وتشاركهم الطعام، إلى ذلك القاتل الذي لا يرحم. هذه المقارنة بين ويل سميث وغيره من الممثلين ترجح لصالح غيره، على الرغم من أنّه قد نال حصة الأسد في الفيلم، ولربما يعود السبب في هذا الاختلال، إلى أنّ ويل سميث كان يهرب من تلك الصفعة، عود على بدء، يعلّق غوتشل على كلام لينكولن، بأنّه مجرد مجاملة مصطنعة لأنّ الحروب تقدح نيرانها لأسباب أخرى، مع أنّه يضع جملة لينكولن ضمن آليات تأثير الكتب. لقد باعت رواية العم توم كثيرًا، بل إنّها وصلت للمرتبة الثانية بعد الكتاب المقدس. لقد أثّرت في الرأي العام وأصبحت أنجيل تحرّر وتضامن مع الملونين الذين ينشدون الحرية. وهنا نجد الحالة ذاتها، فصورة جوردن أصبحت أيقونة أيضًا، لكن بيتر/ ويل سميث رزح تحت ثقلها، ومن أجل تفادي تلك الصورة الأيقونية تم قذفها زمنيّا في الفيلم إلى لحظاته الأخيرة، أي إلى ما يقابل اللحظة التاريخية الفعلية عندما تم التقاط الصورة لظهر جوردن المحروث بالسياط في المعسكر بعد نجاته من مطاردة مستعبديه وكأنّ المخرج بهذه الحركة يريد أن يحرّر بيتر/ ويل سميث من الثقل الأيقوني لصورة ظهر جوردن. لقد كان سميث محقًّا عندما قال، بأنّ الفيلم ليس قصة هروب أحد العبيد، بل إدراك هذا المستعبَد لمعنى كلمة الحرية. وهنا نفهم لماذا أغفلت السياط التي ظهرت آثارها على ظهر بيتر، على عكس ممّا حدث في فيلم "اثنتي عشرة سنة من العبودية"، لكن اللعبة الذكية في إغفال الجلد وتأخير ظهور صورة ظهر بيتر، كي يتم التركيز على معنى كلمة إدراك كلمة الحرية من قبل العبد بيتر، لم تكن مقنعة، فما إن ظهرت الصورة في الفيلم حتى استدعيت شخصية جوردن وليس بيتر، وفي الوقت نفسه ذكرى الصفعة. هذا التخبط لم ينته، بل زيد بلّة مع إضافة الرقم 40، الذي يشير إلى مساحة المستنفع وما يرمز له من تيه بني إسرائيل بعد خروجهم من الاستعباد في مصر (وفق الرواية التوراتية)، فما قدّمه الفيلم في عبور الـــ 40 ميلاً، يشبه إحدى حلقات المغامر البريطاني بيير جريلز، وهو يثبت للمشاهدين، بأنّه قادر على النجاة من مستنقع مليء بالتماسيح وحتى الساحرات! أمّا الجمل المهمّة التي تفوّه بها بيتر، وأكثرها جمل مستمدّة من الكتاب المقدس مع الإشارات الدينية العديدة التي قام بها، جعلتنا أمام واعظ ديني، لا قصة جوردن التي تقوم على أيقونة الظهر المحروث بالسياط.
تقع الأفلام التي تستند إلى قصة حقيقية في المعضلة نفسها، التي تقع فيها الأفلام التي تقوم على رواية ما. فما بين الميل لصالح حرية التخييل بمقابل الواقع، يظل الواقع متجذرًا يقدّم معطياته التي تؤثر في سير الفيلم، وحتى يتم التخلّص من هذا الشرك، لا بدّ من تقديم واقع مواز، نسخة توأم، لكن التشابه بين توأمين لا ينتج ذات الحياة لكليهما، فلكل منهما حياته المستقلّة. والأمر ذاته في الرواية عندما تقتبس فلميّا وإن لم يحدث ذلك، أصبح الاقتباس عاملًا مضادًا للفيلم المستوحى من الرواية. إنّ الذي حدث في فيلم الانعتاق أنّ صورة ظهر جوردن المحروث بالسياط من القوة والسطوة، بحيث تشطب إيّ استبعاد لها، وحتى إنتاج قصّة أخرى لها. وخاصة إذا تحوّلت إلى حصان طروادة يستطيع ويل سميث من خلاله جبّ صفعته على مسرح الأوسكار. في النهاية النوايا الحسنة لا تصنع أفلامًا جميلة، ولربما تكون صورة ظهر بيتر/ جوردن في الفيلم، هي حجر العقد في الفيلم، على الرغم من أنّها كانت أحد أسباب فشله، لأنّها لها القدرة على أن تدفع المشاهد للبحث عن سيرة هذا الظهر المحروث بالسياط، بعيدًا عن محاولة تبييض صفحة ويل سميث.