د. علاء كريم

شكل الموروث الشعبي مساحة واسعة لعملية الخلق الإبداعي أمام فناني المسرح العراقي المعاصر، وما يمتلكونه من أبعاد فكريَّة وإبداعيَّة تمكنهم التعبير عن القضايا التي تشغل واقع المجتمع، وتدعم عملية توظيف أفعال الموروث الشعبي وذاكرته الصوريَّة داخل فضاء المسرح، وايضاً إيجاد سميأة الشكل، أي انتاج العلامات الجمالية والمعرفية المستوحاة من الوقائع والعادات وتقديمها كـ «محاكاة» للمتلقي، الذي يقرأ العرض المسرحي برؤيته المغايرة والملامسة لمخيلته الصورية وما تحدثه من دلالات انفعالية عبر التكوينات البنائية لبيئة المجتمع العراقي.
عديدة هي العروض التي قدمها المسرح العراقي، وفي مراحل زمنية مختلفة، حملت معها رؤى متباينة قد تكون غير واضحة بدلالاتها الأسلوبيّة داخل الفضاء المسرحي، لكنها أي الرؤى تلجأ أحياناً إلى تحقيق واقعية شكلية عبر نقل الموروث الشعبي بدقة تاريخية شكلاً ومضموناً وتوظيفه بصرياً، وهناك عروض أخرى تؤكد على الدلالات المعاصرة، والمتجاوزة للبعد التاريخي وعلاماته الأيقونية، فضلاً عن وجود عروض مسرحية قدمت الموروث وأشكاله الشعبية «الماديّة والروحيّة» بهدف تقديم الافعال الجمالية على بقية الجوانب، وعروض أخرى لامست الموروث الشعبي ملامسة سطحيّة لم تقف عند المعنى الحقيقي لهذه العروض، ولم تظهر آثار واضحة في مشاهد الصورة المسرحيّة وفي النسيج البصري لمنظومة العرض المسرحي. وهذا التباين يعكس عشوائيّة توظيف علامات غير قصديّة، أقصد العلامة الاعتباطية وتأثيرها على التحولات الخلاقة في إطار تجارب المسرح العراقي، وما يتناوله من أساليب وآليّات يمكن لها أن تغيّر شكل الموروث الشعبي وترحيله إلى المستوى البصري للعرض المسرحي العراقي.

تعتمد أشكال الموروث الشعبي في المسرح على مجال التجربة الموضوعيَّة، والافتراضات الخياليَّة التي تأتي بفكرة من الواقع الى عالم مغاير له طبيعة خاصة، فهو من ثم عالم يمتزج فيه خداع الحواس مع شخصيات مختلفة. وهناك حكايات شعبية تتبع منهجا فنيا يتحقق بوساطته حوار يكون بين الراوي والمستمع، قد تتغيّر من خلاله بعض العناصر وتبدل بعضها، وذلك تبعاً لإمكانية المؤدي (الراوي) وفئة المتلقي. وهذا ما تجسّد في مسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل) التي قدمت عام 1974، نقلة تجريبيّة مهمة ومميزة بين سلسلة تجارب، الفنان المسرحي (قاسم محمد) معداً ومخرجاً، وكذلك في واقع المسرح العراقي، لما أحدثه على صعيد التجريب في التراث المكتوب والبحث بين صفحاته عن شكل مشهدي، او طقس احتفالي يحتوي جذوراً درامية حملت مجموعة التناقضات والصراعات الاجتماعيّة وما أفرزته تلك الصراعات من شخصيات تاريخيّة معروفة سواء كانت ايجابية أم سلبية، عاشت داخل كتب التراث المحققة منها. 

أيضاً قدم الفنان قاسم محمد مؤلفاً ومخرجاً مسرحية (كان يا ما كان) والتي قدمت عام 1977، رؤية اختلفت عن العروض التي سبقتها، وفي طريقة حاول بوساطتها إحياء التراث الشعبي المحلي بدلاً من التراث العربي والاسلامي المدوّن، ليقدم عبر هذا العرض الموروث الشعبي بصيغة حديثة مغايرة، لتؤكد هذه العروض المسرحية أصالة المسرح الملامس للموروث الشفاهي، ما تعكسه هذه الحكايات الشعبيَّة البغداديَّة من دلالات عبر الرؤية الفكريَّة، والبنية الدرامية المبتعدة عن التقليدية والاستعارات

السرديَّة.

كما قدمت مسرحية (الشريعة) تأليف: يوسف العاني، إخراج: د. فاضل خليل، عام 1987، جانباً مهماً للحياة الشعبية في العراق إبان الاستعمار الانكليزي، فـ «الشريعة» منطقة تطلُّ على نهر دجلة يسكنها الفقراء الذين يحاولون العيش بصعوبة، وتجري الأحداث متنوعة بين المقهى والمنزل والبار، إذ وظف المؤلف الأماكن الشعبية المختلفة بأحداثها، واعتمد المخرج على المدرجات المصنوعة من الخشب والمغلفة بالحصير، وأيضاً على مجموعة من الحصران المعلقة داخل فضاء المسرح. تمثل الحكاية الشعبية في هذا العرض المسرحي جزءاً مهماً من موروث الشعوب التي تتخللها أفعال وجزئيات تتضمن أشكال ومعاني الأمكنة، يبدأ الممثلون بالحديث عن الشريعة وطبيعتها، وهناك صوت أغنية من الأغاني القديمة الشعبية في بغداد، وبعض الأدوات الواقعية منها: الاستكان، القوري، المناضد الصغيرة، النركيلة، وذلك لإضفاء الطابع الشعبي للعرض. فضلاً عن الأزياء الشعبية البغدادية كـ «الزبون» الغترة الملفوفة على الرأس، الدشداشة، العرقجين، وهذه كلها تعكس طبيعة الموروث الشعبي.

على ضوء ذلك أرى أن هناك ضرورة لإحياء التراث الشعبي عبر فضاء المسرح، والاهتمام به عبر الدلالات المكانيَّة والصوريَّة والحكايات الشعبيَّة التي تعكس واقع البيئة وتجسيدها بأشكال ودلالات مرمزة ومفاهيم حديثة يمكن لها قراءة هذا التحولات برؤية معاصرة، وأشكال تعبيريَّة فنيَّة، توظف عناصر تكوين العرض المسرحي برؤية بنائيَّة جديدة تتوافق مع إفرازات الواقع ومعطياته، كما أنها تعتمد على قدرة الفنان المسرحي على تركيب حكايات جديدة من عناصر حكايات قديمة وفي شكل متناسق

ومترابط. وهذا يعتمد أساساً على مهارة الفنان المعاصر وقدرته على تركيب حكايات جديدة تتوافق فيها عناصر الماضي مع عناصر الحاضر بشكل لا يتجاهل التجارب الإنسانيَّة المتمثلة في الرموز والعلامات الفنيَّة والجماليَّة، وما تسعى إليه عبر آليَّات التواصل الحديثة بعيداً عن المباشرة والانزياح في

المفاهيم.