محنة الصور الزائفة في عزلتها الأخيرة

منصة 2023/01/26
...

 حمزة عليوي 

ظلت حادثة اقتحام متحف بابل تثير لدى من سمع بها ضحكا وبكاء مفارقا؛ ليس لأن المقتحمين قد كسروا باب المتحف الصغير وسرقوا ما فيه ليلة احتلال بغداد «9، نيسان، 2003»؛ فهذا من نافلة القول، كما كان يقول أجدادنا العرب، إنما لأن السراق لم ينهبوا من المتحف سوى قطع مقلدة صنعت على عجل وبقليل من المهارة.

على باب المتحف، أمام الشارع الرئيس كانت القطعة الأصلية الوحيدة تعرض نفسها للشمس والهواء والمطر. كان أحد مسؤولي الآثار هناك قد زرعها في واجهة المتحف. مرَّ السراق أمامها، ربما لاحظها أحدهم، ربما توقف أمامها غيره، لكن الجميع تعامل معها باستخفاف، وربما احتقار؛ فمن يهتم بقطعة آثار تركت خارج المتحف. حسبها الجميع قطعة جبس مقلَّدة. ظلت القطعة في مكانها، في جوف جدار المتحف المنهوب حتى جاء موظف مختصُّ، بعد حين، وانتزعها من الجدار وحفظها بمكان أمين. أتخيل، أنا الذي ولدت جوار بابل ولعبت في طفولتي بين خرائبها، وكان لي أن أشهد وأشارك في بنائها الأحدث، أن قطعة الآثار الأصلية كانت تضحك بسرها من السراق الصغار، غير العارفين والمميزين للأصيل عن الزائف. فيما بعد قادني صديق للمتحف، ووقفت عند المكان الفارغ في واجهة المتحف، حيث القطعة النادرة، وخيل لي آنذاك أني أسمع صوتا يقول لي: «لقد نجوت... لقد نجوت». سأضحك كثيرا لاحقا وأنا أسمع وأشاهد لقاءات وحوارات تخص سرقة المتحف الوطني ببغداد؛ فلا أحد يعرف الذهب الحقيقي من الزائف غير صائغه، أو من ملك سلطة تمكنه من معرفة الأصيل، أو من صنع الحالتين. 


عن «نهر» اخترع مدينة و.. مات

ستة أشهر، لعلها سنة أو يزيد، كنت فيها أتجنب مشهد النهر. مشكلتي أنني أسكن قرب النهر، ومضطر لأصل لعملي أو أن أذهب للمدينة القديمة، لأي أمر، زيارة طبيب مثلا، أن أعبر النهر. في كل مرة أغض النظر، أحاول أن أشغل نفسي بأي أمر حتى لا تذهب عيني إلى الذي يصارع للبقاء حيا. حتى عندما اضطر لعبور أحد جسور المدينة القديمة، جسر الحديد مثلا، فإني أمر سريعا حانيا رأسي حتى لا أرى كيف يمكن لنهر أن يتعذب. لم يعد هناك صوت يخبرك أن هناك نهرا تتلاطم أمواجه تحتك. لم يعد هناك خوف أن يبتلعك النهر، لم تعد هناك متعة بأن تترك إحدى يديك على سياج الجسر الحديدي وتعبر النهر، تتحس برودة الحديد وحرارته، وقد توقفك كلمة كتبها عابث، أو رسم لوجه أو قلب. اختفت الأصوات، وصار الماء الملامس للقاع يمر متعثرا بخجله ويأسه؛ فقد خذله الجميع. المرة الوحيدة التي توقفت منتصف الجسر، وقد أغراني مشهد الحجر على جرف النهر، فأخذت له صورا من زوايا متعدِّدة. في وقتها كنت أفكر بقول «أبو خمرة»، موفق محمد، وهو يخاطب النهر: «ريِّض يا الجاري». لكن الجاري يترك بعض مائه في شرايين المدينة ويمضي في سبيله. لا ماء، لا أصوات يصدرها الجاري سوى أناس ينظرون لنهر يموت كل يوم. نظرات فارغة، لا تشهد فيها ألما، ولا حتى دمعة صغيرة لأجل نهر صنع المدينة، صنع الحلة، اخترعها كما تفعل الإلهة؛ ومن غير النهر جدير باختراع المدن. 


تماثيل و... تماثيل ولقى زائفة 

في قرى «برنون» و»عنانة» و»الجمجمة» و»كويرش التي أزيلت من الخارطة وبُني عليها قصر صدام على شط الحلة، حيث يمكن لمن يقف على شرفة القصر أن يرى استدارة النهر صوب بابل»، كان لمقلدي التماثيل الآثارية، في هذه القرى، شأن كبير، لا سيّما المسنون منهم الذين عملوا مع المنقبين الأجانب والمحليين من موظفي دائرة الآثار، ففي فترات السلام الشحيحة كان السياح الأجانب يتوافدون على بابل، آخرها، ربما، سنتا اللا حرب واللا سلام، مما أسماه العراقيون ساخرين: مكرمة الرئيس الأخيرة، قبل أن يدخلنا الجحيم مجددا بغزوه الكويت، وكان السياح، دائما، على موعد سري مع مزيفي التماثيل. لكن تزييف التماثيل واللقى الطينية اتخذ أشكالا أخرى في عهود المدينة اللاحقة، عندما جرى احتلالها واتخاذها مقرا للجيش الأمريكي، فصارت التماثيل الزائفة تزاحم الأصلية، بل صار التزييف سبيلا لتهريب الأصيل بحجة التقليد. وللتزييف كذلك سوق عامرة بالغريب والعجيب. وهي سوق سرية يتجار فيها الجميع: رئيس البلاد وحاشيته ووزراؤه وجنرالات الجيش، شأن صغار مزيفي التماثيل. فالبلاد كانت تتعثر، دائما، بمزاعم قادتها ومثقفيها عن الأصالة والتراث الذي يجب أن لا يغادر حدودها المصانة مطلقا، فكانت تخفق في الاعتراف بسوق التماثيل الزائفة، شأن بلدان أخرى كانت تميّز بين الزائف والأصيل. لكنها كانت تسمح بتداول الزائف والحقيقي بعيدا عن أنظار العامة، ومنها الذهب المرفق مع المنحوتات والتماثيل واللقى البابليَّة. ومازلت أتذكر مشهد أحدهم، وهو ينخل رمل الشط ومائه بحثا عن الذهب المتسرّب من خزائن المعابد والزقورات البابليَّة. وسيكون هذا المشهد في التسعينيات الكئيبة، مثار دهشة البغداديين وهم يرون من ينخل الماء والرمل بحثاً عن ذهب المدينة الضائع.

لا حدود لمتحف المدينة: في أن الصور تزيِّف المشهد برمته. أتأمل الصور الكبيرة والتماثيل والنصب التذكرية على قلتها عندنا كما أتأمل البشر. إذ كلما مررت قرب تمثال أو نصب تجتاحني مشاعر شتى. أتصور أن التمثال قد تعب وملَّ من وقفته وحيدا، فيما البشر يسيرون حوله وأمامه، وغالبا لا يعبأون به. أفكر أن تمثال السيَّاب مثلا قد سَئِمَ من وقفته هناك على شط العرب، ولو تُرك الأمر له، ربما لترك مكانه وعاد للبيت لا سيما في الليالي القارصة. في ليلة شتوية باردة، نهاية التسعينيات، مررت بجانب نصب التحرير، فذهبت عيني للجندي، ووجدت نفسي أسلِّم عليه وأسأله بصوت خافت: «شلونك أبو خليل؛ شلون شايف الحياة من مكانك؛ أما زلت تفكر بالتسريح من الجيش لتبدأ حياة جديدة عامرة بالأحلام والأمنيات الكبيرة؟». 

غير أنَّ علاقتي بالصور تختلف قليلا. مرة كنت ذاهبا للعمل ورأيت صورة كبيرة لأحد سادة المدينة الجدد، كان غاضبا، ويده تهدد أحدا لا نراه. سألت سائق الباص: «شبيه السيد؛ ليش ضايج؟». ابتسم السائق فيما خزرني أحد الراكبين. لا أتذكر أنني أحببت الصور للشخصيات العامة، السياسية غالبا، مما تصطدم به العين في شارع أو ساحة ما. 

أشعر أن الصور هي المجال النموذجي لاستهتار السلطة بحياة الناس. حتى عندما وضع صاحب المول الوحيد في الحلة صورا لأحمد سوسة والطاهر وغيرهما من المشاهير على الواجهة الأماميَّة للمول، حتى في هذه الحالة فكرت أن الصور تمثل أرخص أنواع الاستجداء العاطفي من أناس يذهبون للمول كما يذهبون في نزهة يوم الجمعة.  لكنّني أحترم التماثيل وأشعر بمحنتها. منذ عقد وأنا أشعر أن بعض الناس النافعين بحاجة ماسة لتمثال يُكرِّم مرورهم الكريم في هذه الحياة. بائع الشاي الذي عثرت عليه، بعد جهد، والذي أتحفني بفلسفته عن الحكم الرشيد في بلادنا غير الراشدة، يستحق تمثالا جميلا يعبر عنه وعن عمله وفلسفته. قال البائع: استغفر الله؛ من أنا حتى يصنعوا لي تمثالا! أجبته: وهل الحمار أحسن منك؛ في بلاد أخرى صنعوا تمثالا للحمار، وهناك تمثال آخر لعامل البلدية، بل هناك تمثال لكلبٍ وفيٍّ رافق صاحبه حتى وفاته. هل هؤلاء أحسن منك؟ في حالة بائع الشاي، وحالتي، وحالة ملايين العراقيين، فإنني أقترح أن صاحب التمثال حر في التعامل مع تمثاله. أقصد هو حرٌّ في اختيار مكان وضعه: يضعه أمام بيته، في غرفته، هو حر. وفي حالات نادرة وخاصة، فإنني أنصح أن يحمل صاحب التمثال تمثاله ويجد له مكانا في غرفته، ولا بأس من التخلص منه قبل وفاته بقليل؛ فالشيطان وحده يعرف ماذا سيكون مصير التمثال بعد رحيله صاحبه، لا سيّما إذا كان صاحب التمثال أبا لم يترك لأمهم ولهم سوى

تمثاله..

كان الله في عون التماثيل بعد رحيل أصحابها وصاحباتها... فهل سنعيش لنشهد رؤية تمثال لأبي خالد «المطرب الشهير «سعدي الحلي» في مدخل كورنيش الحلة من جهة باب الحسين. أتخيّله، في نصبه، جالسا وقد فتح فمه ليغني كما كان يفعل، وقد وضع على رأسه اليشماغ والعقال، وقد ردّ أطراف اليشماغ إلى كتفيه، وهو يغني ليلة ويوم؛ وكأنه يحاول بالغناء أن يدرأ عن مدينته كل سوء وشر تأتي به السنون.  لماذا نجح تمثال السيَّاب في تمثيل حالة البصرة، المدينة المختلفة في سياق التاريخ الإسلامي للعراق، فيما أخفق تمثال «الجواهري» في تمثيل صاحبه أولا، ثم المكان الذي يقف عليه ثانيا؟ أفكر أن للمكان، أو الزاوية التي وضع فيها التمثال، أثرا كبيرا في نجاح أو فشل «التمثال»، لنأخذ «نصب» حمورابي فهو يشرف على مدينته بابل، لكن هل كان تمثال «المتنبي» سيحقق النجاح نفسه على دجلة فيما لو وضع بمكان ما من مدينته «الكوفة»؟ يمكن للمختصين بالنحت والفن عامة أن يتحدثوا كثيرا عن خصائص ومميزات «التمثال» الناجح فنيا، هذا حقهم وتخصصهم الذي لا ينازعهم به أحد، وهو عندي من نافلة القول، لكن كلامهم لا يفسر، لي في الأقل، لماذا يصبح تمثال ما جزءا أصيلا من «ذاكرة» مدينة، فيما يهمل غيره، وقد يكون أفضل

منه.