سهى الطائي
في هذه الدنيا الواسعة وبين هذه الجموع الغفيرة نعيش، ننشأ ونتأقلم، نصادف أشخاصاً نتألف مع بعضهم ولا نندمج مع آخرين، ونحن باحثون كل يوم عن أشخاص نستطيع أن نتعامل معهم بسلاسة، نود أن نكمل معهم توادنا دون أي سوء فهم، أو اختلاف أو بعد.
وقد نتعرض لمواقف عدة تجمعنا بأناس كثر على اختلاف بعدهم وقربهم وحبهم وكرههم وتآلفهم وتنافرهم منا، في النهاية ننظر من سيصمد معنا ومن سيختارنا إن خيرته الأيام؛ كلٌ منا صادفته مشكلات في هذه الحياة، وحاول جاهداً أن يخرج منها بأقل الخسائر، ومن المؤكد أنني لا أتكلم عن المشكلات والأزمات المالية، وأقصد الخسائر البشرية التي نتصادم معها بين فينة وأُخرى؛ كل يوم أو كل شهر أو ربما كل سنة، وحين ندرك بعد خوضها أن الوجع الحقيقي حين تكون طرفاً مهم فيها فيتم الاستغناء عن رتبتك القلبية عندهم فيضعوك في أدمغتهم ليس لأنهم مشغولون بك؛ بل لأنهم يبررون في تفكيرهم أنك خرجت بفعلتك لا فعلتهم، ولكي يرضوا ضميرهم الذي ربما يؤنبهم مرة في العام !
إن فقد الأحبة في هذه المواقف العظيمة أو التافهة هي أقسى الخسارات التي تواجهنا، وحين يُغيّب الموت أحدنا تراه أكثر الناس حزناً مع مشاعر جمة توحي بالألم العميق، ربما لا نفهمها لكننا حتماً نتوقع أن الضمير النائم قد صحى من سباته العميق بعد تخدير دام أشهر أو سنوات، وقد يقوم بأفعال استباقية للتعريف أو التبرير، أو ربما بالإظهار بالاهتمام البالغ أمام الناس ليبدو موقفهم المكلل بالحب واضح للعيان، ولكن سيكون حينها الطرف الثاني تحت التراب، بل وربما أنت نفسك قد شاركت بغسله أو بدفنه أو تلقينه، إن أكثر ما يوجع حقاً من بين كل تلك العلاقات الخربة التي أعلن فيه الشيطان فوزه هو خصام الأخوة، وقد يتلفظ الكثير منا بكلام أقسى من الحجر وأشد من طعن السيف، فقد خاصم أخاً أخوه وبعد كلام جارح لا يمكن نسيانه؛ طلب أن يتفرقا نهائياً وأخرج أخوه من شراكة في مقبرة كانا متفقين في وقت مودتهما على الدفن نهاية المطاف معاً ثم آلت النهايات مختلفة! وحوادث كثيرة رأيناها وسمعناها أو ربما لامسنا بعضها، وكنا الشاهد الوحيد فيها، فقد سمعت مرة من شخص يقول لأخيه بعد خلاف كبير لا يجمعني بك إلا الأخوة في الهوية باسم الأب والأم ولا علاقة لي بك الا هذا التشابه الذي لا علاقة لي بذكره، وأُخرى تنعى أُختها المتوفاة بمنشور طويل جداً وهي نفسها كانت ليست من المهتمين أو المُتصلين والمتواصلين معها.
فهل يعقل أن نظهر مشاعرنا هذه بعد فوات الأوان؟
إن المشكلة ليس في ذلك فقط؛ فقد تغيب عن هذه الدنيا ويوارى جسدك تحت التراب، وربما تحوم روحك بعدها في بيتك لترى ماذا يفعلون بغيابك، أو من أكثر المتألمين عليك فترى بدهشة الميت الحي أن هناك من حضر لمنزلك وهو لم يدخلها قط بحياتك، وترى أيضا من يكرهك جدا وهو جالس يمثل حبك ويُعدد خصالك التي طالما نفر منها وحاول تشويهها. أظن أنه حينها سيدرك أن الموت الذي غيبه ربما أصلح حالاً أو ربما زاد نفاقاً اجتماعيا بدعوى الواجب والمفروض الذي لا فرض فيه والذي يأتي طواعية وبحرية تامة .
فهل يا ترى سنفعل هذا الواجب المقيت في الزيارة مرة؟ نحضر عزاء شخص طالما حاربناه بحياته أو كرهناه؟ ربما نفعلها من باب العظة وأن وقع الموت هز جميع ما نملك من خلجات ونبضات، فيتحرك ساكن يدفعنا لتسجيل حضور طالما غاب،
قد يكون رجاؤنا الوحيد ألا ينعانا أخ ظلمنا وصدق ما صدق لأن مصلحته تطلبت ذلك، وألا يشارك في مجالس عزائنا كارهينا، وقد نرجو ألا يحضر لكل هذه المراسيم من غبنا عنه وهو ساخط علينا أو ربما كافر بعشرتنا، فهل سيفعل من ورائنا من قمنا بتوصيته، أم سندرك أن هذه عادة اعتاد عليها الناس بتقبل كل شيء وقت الحزن دون اعتراض رغم الامتعاض.