ميادة سفر
تسعى السلطات الحاكمة كما التنظيمات والجماعات إلى فرض هيمنتها على المجتمع والأفراد الذين تسيطر عليهم، عبر تبني مجموعة من النظم والأيديولوجيات والأفكار التي تعمل على تعميمها ونشرها لتتمكن من إحكام سيطرتها وتثبيت حكمها، والحكم هنا يتجاوز السلطة السياسة إلى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولعل الهيمنة الثقافية أحد أهم أشكال الهيمنة التي تمارس وأخطرها على المجتمع، لما فيها من محاولات لتغيير بنيته وأفكاره عبر فرض ما يتماشى مع معتقدات السلطات المهيمنة وأفكارها.
تطرق علم الاجتماع إلى هذا الأمر باستفاضة واهتمام كبيرين، وتحدث عنه كل الفلاسفة والمفكرين، وقد أشار عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر إلى الهيمنة بشكل عام ورأى أنها "تتجاوز القدرة على انتصار الإرادة، إذ تفترض وجود مجموعة من الأفراد المستعدين للخضوع والطاعة"، فلا يمكن الحديث عن هيمنة سلطة ما دون وجود الأفراد القابلين بها والخاضعين لما تمليه عليهم، وأحياناً اقتناعهم بما يفرض عليهم، ومن ثمّ ترويجهم لتلك الأفكار في المحيط الذي يعيشون فيه.
تتحقق الهيمنة الثقافية عبر مختلف المؤسسات التي تتمكن من اختراق المجتمعات إما طوعاً أو عبر الاجبار والقمع، حيث تقوم بالتأثير على القيم والأفكار والمعتقدات والسلوك التي يتبعه أفراد المجتمع، وغالباً ما تهدف إلى تحقيق أهداف تتعلق بالسلطات السياسية الحاكمة، التي بدورها تسعى لتأمين مصالحها وتوجهاتها، وأحياناً تمارس الهيمنة الثقافية تمهيداً لوصول فئة أو جماعة إلى السلطة، حيث يتم الترويج لمعتقداتها وأفكارها سواء أكان ذلك المعتقد دينياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً وربما عسكري أو معتقد فكري في بعض الأحيان.
تعمد الجماعات المنضوية تحت لواء الدين في سعيها لفرض سيطرتها وسلطتها إلى التنشئة الدينية، واللعب على وتر الإيمان لدى الأفراد، والتركيز على الآخر المختلف طائفياً ومذهبياً، وخلق الأسباب الكفيلة باستمرار العداء في ما بينها، والإيحاء بأن وصولها للسلطة ضمان لاستمرار جماعتها الدينية، إلى غيرها من أساليب ووسائل وطرق هيمنة ثقافية وفكرية لم تكن الجماعات ذات التوجه الليبرالي والمتحرر بمنأى عنها، إذ مارست هي الأخرى أساليبها الخاص لفرض أفكارها وأيديولوجياتها التي غالباً ما لاقت ردوداً سلبية لاسيما في المجتمعات المغلقة التي تخشى من الانفتاح والتحرر، تلك نماذج وأمثلة عن محاولات الجماعات الحاكمة أو الساعية للحكم لتثبيت أقدامها وفرض هيمنتها بجميع الأشكال الأخرى.
مع الوقت تتحول الهيمنة الثقافية ومع تمرس السلطة في الحكم إلى أمر واقع، وتأخذ شكل عادات وأعراف وقيم مجتمعية راسخة في المجتمع، وتمارس ويتم تناقلها من جيل إلى آخر عبر التنشئة الاجتماعية، حيث يغدو كل ما حولنا طبيعياً وغير مستهجن، حتى وإن كان يتناقض مع العقل والمنطق، وإن تطلع البعض إلى تغييرها لا بدّ سيواجه مقاومة شرسة من المحيط، ومع الوقت يحتاج الوضع القائم إلى ثورة ثقافية واجتماعية لتغييره قبل أن تكون سياسية، غير أنّ اللافت أنه حتى الثورات وتحت مقولة "أنها تأكل أبناءها" يسعى المنتصرون فيها إلى فرض أفكارهم ومعتقدهم الفكري قبل السياسي على الآخرين.
لا يمكن التخلص من الهيمنة بجميع أشكالها وخاصة الثقافية منها، إلا عبر التحرر والمساواة، التحرر الفكري وقبول الآخر وإفساح المجال له ليقول ما يعتمل في ذهنه، واحترامه مهما كانت أفكاره، شريطة عدم المساس بالقيم الإنسانية التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، والتأكيد على القيم الأخلاقية التي تحافظ على المجتمعات معافاة، وبمنأى عن الانتهاك والاعتداء، حينها يمكن التخلص من جميع أشكال الهيمنة والتسلط على الشعوب مجتمعة والأفراد والدول.