ميثم الخزرجي
لعل الخيط الواصل بين الشروع بالكتابة بلحظتها الكونية المرتقبة وبين المدى المعني لمقبوليَّة الفكرة وفقاً لمضامين جدليَّة تحفّز الأديب بأن يكرّس مدوّنته لهذا الفعل هو الوعي، فحال استقرارنا كثيراً عند هذا المفهوم، نجد أنّ ثمة بعداً فلسفياً يلزمه على هذا المراس، بغض النظر عن سعة الرؤى التي تعنى بعموميّة مبرراته والسبب الناجم عن ارتياده لهذا المناخ، ليكون المردود الذي من ورائه، أثراً يخصه وصبغة تمسك به، لكنّي هنا أتوقف عند الوعي بمفهومه النسقي الجاد الذي يسحب الأديب إلى مثابة تبرز إمكاناته الفنيّة وعدّته الجماليّة، ناهيك عن شروحاته المعرفيّة وأسئلته المشاكسة المضمّخة بكثيرٍ من المخاضات النازفة، بل تدفعه إلى الهاوية أو الرجم في أحايين كثيرة لنكون أمام طرح مثمر غير مفتعل لا يقبله الشك أو تشوبه المهادنة والتكلّف.
فلو اتفقنا على أنّ الأمارة التي تستوفي سرَّ الكتابة أزاء احتشاد الوقت بالفوضى والغثيان المنغمس به الأديب، هو الشعور بالمسؤوليّة حيال الهم الوجودي المصاحب لفورة الما حول واستعارته بشتى جنباته ومفاصله، مستحضراً من خلال نصّه إشارات واستفهامات متسائلاً ومؤسساً نصّاً موازياً لواقعه المرير، لكنّي أجد أنَّ ماهية هذه المسؤولية المشكّلة نتائجها للتعبير عن هذه المأساة تكون متواترة بل غير متفقة تبعاً للمضمر النسقي الذي يكنّه، وهذا شيء لا خلاف عليه، لعلها تأتي على مستويات متفاوتة، وقد تكون فطرة جُبل عليها وإن حاول الإفلات منها بأن يصطنع وجهة مغايرة فلن يستطيع، وقد يتهادى منه ما كان متوارياً وينسل منه بهدوء.
في حقيقة الأمر، أجد أن مزاولة الفعل الجمالي يأتي كمراس يومي غير خاضع للشرط أو الدرس، سلوك لا تحدّه عذابات الحياة واعتلال أيّامها، وهذه دربة لا تحتكم لطقس معين، فما الداعي بأن كتّاباً يدوّنون نصوصهم في المعتقل، أو يسكنون في حجر ضيقة، ويعانون من نقص في أبسط متطلبات الحياة، وتراهم لا ينفكون من المواصلة وكأنَّ ثمة ما يشي إلى اللحاق بهذا المصير على حساب أمورٍ تأخذ من تفاصيلهم الكلية لتفهرسهم هماً إنسانياً مشيّداً بعدة فنيّة، هامين بحجز مقعدٍ محترمٍ لهم في المشهد الأدبي، وأن آخرين يجدون أن محنة الذات الإبداعيّة لا تكتمل إلا بالعزلة، وقد يمدّهم هذا الابتعاد تحريك مشغلهم لإعطاء نتاج ثر ومختلف لنا، والشواهد كثيرة على ذلك، لعل أبرزهم الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي رفد المكتبة العربية بما هو مضيء، لربما خلف هذه العزلة وعي مشروط بأنساق لها اعتباراتها الوجودية والاجتماعية بل حتى السياسية على الرغم من أنها تثير نزوعه للكتابة وتدفعه لمزاولة مشروعه وإن كان متحفظاً حيال ماهية تسليع منتجه، كالتزام يدعوه للخشية من عين الرقيب أو لغاية لها مبرراتها المضمرة تنمُّ عن محاذير وقلق مبطن له انزياحاته الإنسانية المؤاتية لطبيعة الفعل الإجرائي المترتب على جوهر النص ومكنونه، وهنا نجد أن التاريخ الأدبي العربي حافل بالأسماء التي غُيّبت من جراء الكلمة.
لعل تفحّص هذه الجزئية التي تدفع الأديب إلى الانزواء أو الهجرة إلى مستقر آخر لكي يجد ذاته من خلاله، فيمارس حريته بالتصريح أو الإشارة من دون قيد أو شرط، ولو استقرأنا بأن مردود هذه التفصيلة يأتي حسناً على استفزاز مشروعه في بعض الأحيان، فلكم من أديب دفعته لوعة الحياة بجميع مفاصلها إلى الاكتراث للنص والعناية به وهنا ليس من الضروري أن أفسّر ما قلته على أن أدخل الأديب في مماحكات السلطة، وأن أبدد قواه، وأسفك عيشه الرغيد وادخله في محرقة في سبيل أن يثمر هذا الحال إلى نص يؤرخ معاناته، لكني أجد أن أفدح المصائر وأكثرها حرقة هي التي يكتبها المعنيون بهذا الهم والمتمردون عليه.
بطبيعة الحال أجد أن الإحاطة الكليّة بفعل الكتابة محفوفة بعوالم تعضّد من مجراها وتزيد من حيويتها، فالتنشئة والبيئة ومتغيرات الواقع السياسي والاجتماعي بتقلّباته الايديولوجية وما يتخللها من أزمات ديالكتيكية لها طروحاتها وأبعادها المسيطرة على اتخاذ الموقف أزاء ما تسببها
من ردود أفعال، جميعها عوامل تسهم - بشكل أو بآخر - بإثارة هذه المنطقة فيكون هناك تحشيد في الرؤية المعنية للأديب ليتخذ موقفاً إنسانيّاً قبالة نفسه أولاً مؤرخاً من خلال وعيه عن طبيعة الواقع المعيش، بغض النظر عن تسويق الماكنة الإعلاميّة له، بقي أن تكون الصورة أو الطريقة التي يشير بها لمستجدات واقعه، فهذا يخضع إلى ما ينعم به من ذخيرة معرفية وقاع ثقافي ممسك به، لهذا نرى أن مستوى النص يتباين بين صناع الجمال على اختلاف متونهم الأدبيّة، وإن كانوا يعدّون ويدورون بالفكرة نفسها.