علي العقباني
"الميوزيكل" أو ما يُعرف بالأوبريت الموسيقي أو المسرحية الموسيقية الغنائية فن تعرفنا عليه في أوروبا عبر استعراضات فنية كبيرة، سواء في المسرح أو السينما وكبرنا على الاستماع والمشاهدة على روائع مسرح الرحابنة وحكاياتهم حول الضيعة والمختار والحب وقصص الممالك البسيطة والعميقة والساحرة، أعمال تحتاج لحكاية تتموسق وجهد كبير في الاستعراض والغناء والرقص والتناغم والديكورات الضخمة والفنيين المختصين، وهنا نحن أمام ميوزيكل عربي سوري بعنوان (قصة من الشرق)، والذي كتبه السيناريست والشاعر الغنائي محمود إدريس وصنّف على أنّه من الكوميديا الغنائيّة، ومن المعروف أن هذا النوع من الأعمال يتطلب عدداً كبيراً من الراقصين والمغنين والمؤدين لذك تمت الاستعانة بطلاب المعهد العالي للموسيقى مع طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، كذلك الأمر بالنسبة للديكورات والإضاءة والموسيقى التي تصدى لها الفنان العراقي رعد خلف في تجربة وتحدي تقديم هذا النوع من الأعمال في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، والموسيقار رعد ولد في مدينة البصرة عام 1964، وسط اسرة موسيقية بامتياز فوالده الموسيقي المعروف حميد البصري أستاذ الموسيقى العربية، ومؤسس فرقة الطريق العراقية ووالدته المغنية شوقيّة العطار.
أنهى المرحلة الابتدائية الموسيقية في بغداد (مدرسة الموسيقى والباليه) ثم أتم الدراسة المتوسطة والجامعية في موسكو ثم عاد بعدها لدمشق.
عام 1990 نال شهادة الماجستير في الموسيقى من أكاديمية غنيسينيخ الموسيقية في موسكو، اختصاص (كمان – تأليف موسيقي). وهو مرشـح لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة لايدن الهولندية للبحوث التاريخية، وشغل العديد من المناصب الموسيقية المهمة وألف لعشرات الأعمال الدرامية الموسيقى التصويريّة لها وشكل فرقة ماري الموسيقيّة وغير ذلك الكثير، وأقام العديد من الحفلات الموسيقيّة والعروض الفنيّة في الدول العربية والأجنبية.. الحكاية في الميوزيكل ذريعة درامية للموسيقى والغناء، فليس من الضروري هنا الاستعانة بالقصص والتراجيدبات والمقولات الكبرى على أهميتها، الميوزيكل هنا يأخذ شكله من الاستعراض والغناء والرقص وسينوغرافيا العرض، ورعد هنا يأخذ النص نحو عالم رشيق حيوي بسيط مفعم باللون والاقتراحات الموسيقة المتنوعة المصادر والحيوات، تترافق مع لوحات راقصة تطلبت منه العمل لأشهر طويلة وبميزانية كبيرة مع عدد كبير من الفنانين والراقصين والمؤدين. في "قصة من الشرق" الذي عرض على خشبة "دار الأوبرا" في دمشق، يتبادر إلى الذهن السؤال الأول في هذا النوع من العروض النادرة على مسارحنا هل هو الإبهار البصري والشكلي، وربما الحكائي، أم هو الشكل العام للميوزيكل القائم على مجموعة تفاصيل واسكتشات وأغاني ورقصات ترافق أو تعين الحكاية البسيطة على المرور في هذا الاستعراض الكبير، من خلال مقومات الميوزيكل من غناء وتمثيل ورقص وحوار وموسيقى، وسينما، وديكور وإضاءة. من الطفولة يبدأ العرض عبر شاشة عريضة عليها لقطات لطفل وطفلة يكبران معاً ويسافران ويعودان إلى القرية، زوجان تشتعل القرية في حرب ذكورية متمثلة بالمختار أبو الورد (مجدي أبو عصفور) ورجالاته، ونسويَّة متمثلة بالست غالية (غزل يوسف) ونسائها لتطليق العروسين الحبيبين شغف (آية الشاعر) وجاد (مصطفى الشهابي) من بعضهما بلعبة من هنا وهناك، وتشتعل المناوشات و والمعارك والمكائد والصراعات النسوية الذكوريَّة، ونتابع حكايا جانبية مرفقة بالعرض والحكاية كعلاقات الحب والوشايات والنميمة والدسائس، كل ذلك في سياق بسيط يعتمد الرقص والغناء والأكروبات المرافقة في غنى بصري وتشكيلي خاص، وهي اللوحات التي صمم الرقصات فيها المدرب الراقص معتز ملاطيه لي والذي حاول ملء فراغ الخشبة بتشكيلات حركية راقصة وراقصين قدموا لوحات مميزة، مع أزياء المصممة ريم شمالي التي أضفت على اللوحات قدراً كبيراً من الجمال والحيوية، ومن دون البحث في مبررات وتفاصيل الحكاية دراميا، يكفي إيقاع الميوزيكل الكامل الذي يحمل ذلك برشاقة وتشكيل، وهنا سنكون مثلاً مع ودرويش (غيث الأدهمي) البائع الجوال على دراجته والذي يبيع كل شيء، ويعرف خفايا الضيعة وناسها وعلاقتهم، ويقدم فواصل من المرح والفكاهة المترافقة مع عمله وشخصيته، ويلعب في النهاية دوراً في التوفيق بين الأطراف المتنازعة، وكذلك قصّة الصبيّة القويّة التي تحب شاباً من الضيعة، والثرثارة التي تنقل الكلام من هنا وهناك (مي حاطوم) وأبو الصوت صاحب السطوة والمخيف للضيعة، والمتصابية التي تتمختر وتغازل، وشباب الضيعة وحكاياتهم، احتفاليات مترافقة مع مواويل وغناء ورقص يرافق الحكاية التي تخللتها انتقادات وتلميحات كوميدية ذات طابع اجتماعي ونقدي ساخر عن الأحوال والغلاء والحياة قدمت كأغنيات ساخرة مقدمة بأسلوب جذاب ورشيق، أسهم في جماليتها سينوغرافيا مميزة حققها مهندس الديكور نزار بلال، من خلال بيوت بيضاء بنوافذ وأبواب زرقاء تشبه تشكيلات مدينة سيدي بوسعيد التونسية الشهيرة مع تدلي أشجار الياسمين الملوّنة على طرفي الخشبة، وفي الواجهة ينضاف إليها درجان منحنيان في الوسط تتلاقى عندهما شرفة طولانيّة، أسهمت إضاءة مدير التصوير والإضاءة عمار الحامض بألوانها المتنوعة والمشرقة بإعطاء كم كبير من الحيوية للعرض. يمكن القول إنّ (قصة من الشرق) في أحد تجليات النظر إليها ورغم ما قد يعيب عليها البعض ضعف البنية الدرامية للعرض، وعدم وجود تلك الملامح الشرقية التقليدية فيها، تبدو إحياء لمجد الموسيقى والمسرح الراقص والفرح واللون والحب والحياة وإعطاء فرصة لمواهب شابة وخبرات موسيقية بدت ملفتة جداً.