بيت الحكمة.. مركزٌ فكريٌّ سبق {وادي السيليكون} بقرون

بانوراما 2023/02/05
...

تيرهي نورميكو فولر


ترجمة: ليندا أدور


مرَّة تلو الأخرى، يصبح من المؤكد أنَّ التعاون هو المحرك الرئيس للابتكار العلمي والتكنولوجي، وأنَّ بعضاً من أعظم المنجزات انبثقت من محاور فكرية أنشئت لهذا الغرض.

اليوم، يعدُّ «وادي السيليكون» مترادفاً مع هذه الفكرة، لكنه واحدٌ من سلسلة طويلة من المؤسسات التي مهدت الطريق من قبل، وأحد تلك الأمثلة جاء من بغداد، العراق، خلال حقبة العصر الذهبي الإسلامي في القرن الرابع الإسلامي (القرن العاشر الميلادي). في تلك الفترة تقريباً، التي كانت أوروبا تعيش ما يعرف بـ»العصور المظلمة»، جاءت نشأة «بيت الحكمة»، حيث جُمعت وتُرجمت، الى العربية، العديد من الأعمال العظيمة التي تعود لبلاد فارس والصين والهند واليونان، بضمنها أعمال لأرسطو طاليس وإقليدس.



بنو موسى

قادت هذه البيئة المتنوعة ثقافياً ولغوياً الى ظهور ابتكارات أسهمت في أنْ يكون لها إرثٌ دائمٌ بمجالات شملت الجبر والجغرافيا وعلم الفلك والطب والهندسة. على مدى ثلاثة قرون ونصف هي فترة ازدهاره، ازدحم بيت الحكمة بالعديد من المفكرين متعددي المواهب، من بينهم الإخوة «بنو موسى»، وهم ثلاثة علماء من بلاد فارس من القرن التاسع الذين عاشوا في بغداد، الذين شكلوا فريقاً متعدد التخصصات، فأحدهم كان عالم رياضيات والثاني عالم فلك والآخر مهندساً. قام الثلاثة بترجمة أعمالٍ من لغات أخرى الى العربية، كما قاموا برعاية مترجمين آخرين واستثمروا الأموال في شراء المخطوطات النادرة، الى جانب خوضهم ميدان السياسة وتطوير البنى التحتية الحضرية، فضلاً عن موهبتهم الموسيقية.

لكنْ، يمكننا القول، إنَّ أكثر المساهمات الملموسة لبني موسى هو أتمتتهم الآلات أو ما يعرف بالأتمتة، حيث يصفون بأحد أعمالهم المنشورة في العام 850 بعد الميلاد، بعنوان «كتاب الأجهزة البارعة» الذي ترجم بعنوان «كتاب الحيل»، الآلات التي تعدُّ أسلاف الروبوتات الحديثة، وقد ضمت آلاتٍ موسيقية وأخرى ميكانيكية الى جانب عازف ناي آلي يعمل بالبخار، الآلة التي عدها تون كوتسير، الأستاذ لدى جامعة فريجي بأمستردام بأنها أول آلة موسيقية ميكانيكية قابلة للبرمجة في العالم.


تعاون الخوارزمي مع الكندي

في ذلك الوقت، كان عالمٌ آخر من بيت الحكمة هو محمد بن موسى الخوارزمي، المستوحى من اسمه مصطلح «الخوارزمية» الذي نستخدمه اليوم بانتظام. في حقيقة الأمر، كان إرث الخوارزمي ذا شقين، إذ إنَّ مصطلح «علم الجبر»، هو الآخر مستوحى من أحد كتبه بعنوان «كتاب الجبر والمقابلة»، والذي يعدُّ واحداً (إن لم يكن) هو أول المنشورات عن قواعد الجبر في العالم، فضلاً عن إسهامات مهمَّة له بمجال الجغرافيا وعلم الفلك.

بشكلٍ وثيق، عمل الخوارزمي مع الكندي، المعروف باسمه اللاتيني « Alkindus”، العالم الموسوعي، وأحد مواطني الإمبراطورية العباسية، التي وسعت من رقعة العالم الناطق بالعربية من باكستان (حالياً) الى تونس، ومن البحر الأسود الى المحيط الهندي. كان الكندي عالم رياضيات، درس تحليل الشفرات، ويعدُّ رائداً في النظريات الموسيقيَّة، جمع بين الفلسفة الأرسطية والفلسفة الإسلامية، ويعود له الفضل في تقديم الأرقام الهندية لزملائه وأقرانه في العالم العربي، وقد طور، جنباً الى جنب مع الخوارزمي، الأرقام العربية التي نستخدمها اليوم (ويقصد بها الأرقام من 0 الى 9). قام الكندي بتأليف أقدم كتاب معروف عن علم التعمية، وعُرف باستخدامه الاستنباط الإحصائي، إذ يصفه، لايل بروميلينج، الخبير الإحصائي، بأنه أحد أقدم النماذج المعروفة لكلتا الطريقتين. كان للكندي مكتبة شخصية فخمة، لكن بنو موسى، ولشدة غيرتهم، تآمروا عليه بضربه وطرده من بيت الحكمة وصادروا مكتبته ومنحوها لأنفسهم. بعد قرون من إسهاماته في تعزيز التفكير العقلاني والتطور التقني، تعرض بيت الحكمة للتدمير على يد المغول أثناء حصارهم لبغداد العام 1258، ولم يتركوا له أثراً. غياب الأدلة الأثرية، دفع البعض من العلماء الى التشكيك بوجوده أو مجرد الإشارة الى وجوده، ليس كمكان، بل كحالة ذهنية.


أرشيف وطني

يقترح ديمتري غوتاس، في كتابه الفكر اليوناني والثقافة العربية، بأن بيت الحكمة، يمكن، في أحسن الأحوال، تصويره بطريقة رومانتيكية على أنه «أرشيف وطني مثالي»، مشيراً الى أنه للفترة ما بين الأعوام 800 و1000 بعد الميلاد، كانت هناك حركة ترجمة نشطة وواسعة بمنطقة الشرق الأوسط أدت الى ترجمات شاملة وممنهجة للأعمال اليونانية غير الأدبية الى العربية، حيث كان المترجمون يحظون بتقدير عال، وتم منحهم المكانة الاجتماعية، ليس وحدهم فحسب، بل للنخبة التي ساعدت بتمويل نشاطاتهم. يلخص العالم البريطاني الشهير من أصول عراقية، جيم الخليلي، أستاذ الفيزياء النظيرة النووية في كتابه «Pathfinders”، بالقول: “بالفعل، كانت هناك مؤسسة تعرف باسم بيت الحكمة، وتوسع نطاقها بشكلٍ كبيرٍ أكثر من مجرد مكتبة قصر، لتصبح مركزاً للبحث العلمي الأصلي”. بالرغم من أنَّ هناك الكثير مما نجهله عن بيت الحكمة، إلا أنَّ ما يبدو واضحاً هو أنه كان مدفوعاً بتقدير الأفكار العظيمة، التي يمكن أنْ تنبثق من خلال بيئة فعالة متعددة التخصصات. وبهذا الصدد، بدا أقل شبهاً بوادي السيليكون، الذي ظهر وكأنه يركز مباشرة، على المكاسب المادية ومعروف بجذبه بطريقة مجردة من المبادئ، لذلك كان أحد مفاتيح نجاح بيت الحكمة هو الدعم المالي المتواصل من مختلف الخلفاء المتعاقبين، الذين كانوا قادة سياسيين ودينيين للدول الإسلامية، وقد ركز الباحثون على الدراسة أكثر من الحصول على الدعم المالي. لهذا يتبادر الى أذهاننا السؤال عما يتطلبه الأمر لاستحداث بيئة ومساحة كبيت الحكمة في يومنا هذا؟ هل هي إعادة تقييم للطريقة التي يدار بها التعليم العالي وتمويله والحكم عليه وتدريسه؟ أم أن انقسام التخصصات التي تضع العلوم والإنسانيات على طرفي نقيض، وهو ما يعيق الابتكار؟ بالنسبة لعلماء بغداد في القرن الرابع الإسلامي، كانت هذه المجالات متناقضة لكنها كانت وجهين لعملة واحدة.


*موقع ذا كونفيرزيشن