التسابق لإنقاذ روائع فن الكهوف في العصر الحجري

بانوراما 2023/02/05
...

 ترجمة: شيماء ميران




لأجل الوصول الى المكان الوحيد في العالم الذي عُثر فيه على رسومات عن الحياة البحرية في عصور ما قبل التاريخ، كان المطلوب من علماء الآثار الغوص من جنوب فرنسا الى قاع البحر الأبيض المتوسط. ومن ثم عليهم عبور نفق طبيعي لمسافة 137 متراً وصولاً الى ممرٍ صخري عبر مدخل الكهف، ثم الى كهفٍ واسعٍ، مغمورٍ معظمه اليوم بالمياه.



وقد لقي ثلاثة أشخاص حتفهم أثناء محاولتهم العثور على كهف “لاسكو” المغمور تحت الماء، حيث ازدادت الشائعات حول الكهف الواقع جنوب فرنسا، والذي غيّر تماماً الطريقة التي كان يبدو بها أسلافنا في العصر الحجري.

أثبت كهف “لاسكو”، الذي شاهده الرسام بيكاسو عام 1940، أنَّ صناعة الفن ضرورة قديمة بقدم البشرية ذاتها.

سطعت حياة عالم الآثار “لوك فانريل” في كهف كوسكار للمرة الثانية، إذ رآى صورهُ المذهلة. حتى انه اليوم، وبعد مرور ثلاثين عاما، يتذكر “نفحة جمال” الكهف.

لكنَّ الكهف وكنوزه، التي يعود بعضها الى ما قبل أكثر من ثلاثين ألف سنة، مهددٌ بخطرٍ جسيم، إذ إنَّ تغيرات المناخ وتلوث المياه والبلاستيك تهدد بمحو منجزات الرجال والنساء من اللوحات الفنية في عصر ما قبل التاريخ على مدى 15 ألف سنة.

فمنذ الارتفاع المفاجئ لمستوى مياه البحر الى 12 سنتيمتراً عام 2011، دخل “فانريل” وزملاؤه في سباقٍ مع الزمن، لمعرفة ما يمكنهم فعله، لأنَّ ارتفاع مستوى المياه لبضع مليمترات سنوياً، يمكن أنْ يؤدي الى تزايد تآكل الرسومات والمنحوتات القديمة.


عجائب ما قبل التاريخ

يعمل «فارنيل» مع علماء الآثار الغواصين بوتيرة متسارعة لتحديد موقع الزوايا الأخيرة للكهف الذي تبلغ مساحته 2500 متر مربع، ولتحديد موقع عجائب العصر الحجري الحديث فيه قبل فقدانها. وسيتم افتتاح موقعٍ ترفيهي بحجم كهف «كوسكار» الطبيعي، يبعد عن مارسيليا بضعة كيلومترات قليلة.

في مطلع العام الحالي، انضمت وكالة فرانس برس لفريق الغوص، بغية التسابق لإكمال رسم الخرائط الرقمية، ولإعادة بناء كهف ثلاثي الأبعاد.

يوجد على جدار كهف (كالانك) الواسع، الذي يبلغ طوله 37 متراً والمغمور تحت المياه الزرقاء في مداخل الخلجان الخلابة شرق مرسيليا، 600 رمز ورسم تقريباً منقوشة على الجدار، إضافة الى بعض اللوحات عن الحياة المائية التي لم يسبق رؤيتها.

يقول “برتراند جايسلي”، الغواص المسؤول عن عملية رقمنة الكهف: “لقد تصورنا نقل الكهف الى السطح. وعند إتمام العمل، سيكون كهف “كوسكار” الافتراضي، الذي ستبلغ دقته بحدود المليمترات، مهماً جداً بالنسبة للباحثين وعلماء الآثار الذين لا يمكنهم الدخول إليه في الحقيقة.


أيادي الأطفال

بيّن عالم الآثار (ميشيل أوليف) أنَّ «الكهف، كان يبعد عشرة كيلومترات عن الشاطئ حينما كان مستخدماً. إذ كان مستوى المياه في البحر منتصف العصر الجليدي أقل من 135 متراً عن ما هو عليه اليوم».

قام (اوليف)، المسؤول عن دراسة الكهف، وهو على متن زورق الغوص برسم سهلٍ شاسعٍ بيديه حيث يوجد البحر المتوسط اليوم، موضحاً أنَّه «كان مدخل الكهف عبارة عن تلٍ صغيرٍ جنوباً فوق مرجٍ أخضر تحميه الصخور. وكان مناسباً جداً للناس في عصور ما قبل التاريخ».

تكشف جدران الكهف أنَّ السهل الساحلي لم يكن مليئاً بالخيول البرية والغزلان والثيران والوعل والأبقار البرية في عصور ما قبل التاريخ وظباء السيغا فقط، بل كان يضم عجول البحر والبطاريق والأسماك والقط والدب. إذ شملت الرموز المصورة على الجدران والبالغ عددها مئتين وتسعة وعشرين أكثر من ثلاثة عشر نوعاً مختلفاً من الأحياء.

وترك نساء ورجال العصر الحجري الحديث عن طريق الخطأ، أكثر من 69 أثراً لكفوفهم على الجدران بلونين الأحمر والاسود، ومنها أثر كفوفٍ لثلاثة أطفال.

لكنَّ ذلك لا يمثل مئات الرموز الهندسية وثمانية رسومات لأجزاء جسم للذكر والأنثى.

وبحسب (وارنيل) فإنَّ ما يبدو من الكهف أنَّه كان مأهولاً: “قبل (33 ألفاً الى 18 ألف سنة) قبل الميلاد، إذ إنَّ حدّة رسوماته تضع (كاسكار) بين أكبر أربعة مواقع كهوفٍ فنيَّة في العالم، الى جانب كهفي التاميرا وشوفيه في لاسكو، اسبانيا، وايضاً جنوب فرنسا”. مضيفاً أنَّه “نظراً لأنَّ جدران الكهف المغمورة تحت الماء اليوم ربما كانت مزينة ذات يوم، ولا يضاهي حجمها أي شيء في أوروبا”.

كما يؤكد مبتسماً أنَّ اكتشاف كوسكار يثير حالة الإدمان على زيارته، فبعض العاملين في الموقع يصيبهم الحزن إنْ لم يتمكنوا من النزول إليه لبعض الوقت.

يرى “وارنيل” أنَّ الغوص يعدُّ بمثابة “رحلة بحد ذاتها”. ويبدو أنَّ الشعور بالمكان “يتسلل إليك”.


البحث والموت

يشير هنري كوسكير، محترف غوص في البحار ومدير إحدى مدارسها، الى أنَّه عثر على الكهف عن طريق الصدفة عام 1985، على بعد 15 متراً من منحدرات الحجر الجيري الجرداء.

تجرأ هنري على الدخول ببطء في صدع طوله 137 متراً في الصخر، حتى خرج ذات يوم من تجويف حفرتهُ مياه البحر.

ويوضح في حديثه لوكالة فرانس برس: “دخلت الى كهف مظلم. ستبتل وتخرج من الوحل وتحوم حول نفسك. لقد استغرق الأمر مني عدة جولات لكي أتمكن من التجوال فيه. في بداية الأمر، لم أتمكن من رؤية شيء باستخدام المصباح الخاص بي، حتى عثرت على بصمة يد”.

يفرض القانون أنْ يتمَّ الإعلان عن مثل هذه الاكتشافات فوراً لكي تتمُّ حمياتها، لكنَّ كوسكير لم يخبر إلا عدداً قليلاً من أصدقائه المقربين: “إنَّ الكهف ليس ملكاً لأحد، فعلى سبيل المثال، عندما تجد مكاناً جيداً للمشروم، فلا تريد إخبار الجميع عنه، أليس كذلك؟”.

لكنَّ انتشار الشائعات عن كهف “لاسكو” المائي جذب غواصين آخرين، ما تسبب بموت ثلاثة منهم في النفق المؤدي إليه. وبقي الكهف الذي تميز بوقوع حوادث مأساويَّة ملكاً لكوسكير حتى اكتشافه في العام 1991. أما اليوم فإنَّ الكهف الذي يحمل اسم مكتشفه مغلقٌ بسياج، ولا يسمح بالدخول إلا للبعثات والفرق العلمية.

رغم إرسال العشرات من البعثات الأثرية البحثية لدراسة الموقع والحفاظ عليه، وجرد الرسوم والمنحوتات الموجودة فيه، لكنَّ استخراجها بدأ حين اُكتشف كهف “شوفيه” الذي تم اكتشافه في منطقة ارديش عام 1994، نظراً لسهولة الوصول اليه.


الضرر الناجم عن تغير المناخ

بدأت الأمور تتغير عام 2011، حين حذر اوليف وفانريل من ناقوس الخطر بسبب الارتفاع السريع في مستوى مياه البحر، ما تسبب بإلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه لبعض الرسومات.

يستذكر وانريل: “لقد كانت كارثة هزتنا حقاً، وبالأخص الأضرار الجسيمة التي لحقت بصورة الحصان”.

تقول “ستيفاني توران”، عالمة الجيولوجيا في مختبر أبحاث الآثار في فرنسا والمختصة بالكهوف المنحوتة التي تعود لعصور ما قبل التاريخ: “لقد أظهرت البيانات جميعها ارتفاع مستويات مياه البحر بنحوٍ متزايد. إذ إنها ترتفع وتهبط داخل الكهف بفعل تغيرات المناخ، ما أدى الى غسل الجدران وإزالة التربة الغنية بالمعلومات”. كما أنَّ تلوث المياه باللدائن الدقيقة تسبب بتشوه الرسومات.

ولمواجهة هذا التهديد الحقيقي، أطلقت الحكومة الفرنسية حملة كبيرة لتسجيل كل ما موجود داخل الكهف، وكلفت عالم الآثار “سيريل مونتويا” بمحاولة معرفة مجتمعات ما قبل التاريخ التي استخدمت الكهف.


اللغز الغامض

كان أحد الألغاز التي سيحاول «مونتويا» حلها مع فريقه هي قطعة من القماش على جدار الكهف، والتي ربما تؤكد نظرية مفادها أنَّ الصيادين كانوا يصنعون الملابس عندما كانوا يستخدمون الكهف.

كما تثير صور الخيول ذات الأرجل الطويلة تساؤلاً آخر، ما جعل “وانريل” يعتقد أنَّها ربما تكون قد تم تدجينها بالفعل، على الأقل كون الخيول البرية التي تملك ما يعرف بالعرف القصير كانت تهرول عبر الأدغال والنباتات. والرسم التخطيطي للسرج قد يدعم نظريته.

يعتقد مونتويا أنَّ ما تُظهره المكانات المحفوظة تحت طبقة من الكالسيت شبه الشفاف من بقايا الفحم، التي قد تُستخدم في الطلاء أو التدفئة أو الإضاءة، تشير الى أنَّ الفحم كان يُحرق فوق الرواسب الكلسية للكهف، وتحويلها إلى مصابيح للإضاءة.

لكنَّ أوليف أقرَّ أنَّ السؤال الرئيس حول الغاية من استخدام الكهف تبقى غامضة.

بينما يتفق علماء الآثار على أنَّ الكهف لم يكن مأهولاً، لكنَّ أوليف يبين أنَّ البعض يعتقد بأنه كان “ملاذاً، أو مكاناً للاجتماع، أو لصنع الشراب أو تعدين الحجر الجيري، وهي المادة البيضاء الموجودة على جدران الكهف المستخدمة في طلاء المجسم والخلفية، إضافة للرسم والنحت.


نسخة طبق الأصل

طُرحت بعد مدة قصيرة من اكتشاف الكهف فكرة استنساخه، ولم تقرر الحكومة المحلية ذلك حتى عام 2016، بعد أنْ قامت بتجديد مبنى في مرسيليا عند مصب ميناء المدينة القديم بجوار متحف الحضارات الأوروبية والمتوسطية.

يوضح “لوران ديلبوس” رئيس شركة “كليبرت روسيلون” التي نسخت كهف شوفيه عام 2015، أنَّ حجم الكهف المنسوخ باستخدام البيانات ثلاثية الأبعاد التي جمعتها الفرق والبعثات الأثرية، والذي بلغت تكلفته 23 مليون يورو أصغر بقليل من حجم الكهف الأصلي، لكنه سيضم نسخاً من جميع اللوحات وتسعين في المئة من المنحوتات.

وكان النحات والفنان “غيليس توسيلو” أحد الحرفيين الذين قاموا بنسخ اللوحات باستخدام الفحم والأدوات ذاتها المستخدمة في العصر الحجري.

وبينما كان توسيلو جالساً في الاستوديو المظلم الخاص به قال: “لقد ألف فنانو ما قبل التاريخ المجموعة منذ زمن طويل، وأنا اليوم أعزفها”، ثم وجه الإضاءة الى أحد تفاصيل الحصان المرسومة أمامه على جدار الكهف المستنسخ.

يوضح “توسيلو” إعجابه بمدى إتقان وعفوية أسلافه في عصور ما قبل التاريخ، والذين من الواضح أنَّ فرشهم الواثقة جاءت من الحكمة والخبرة العظيمة. وما أدهشني هو حرية الإشارة واليقين التي لم تتوقف.


عن نايشن وورلد نيوز