هل يدفع العنف الأطباء إلى الهجرة؟

بانوراما 2023/02/22
...

 كاثرين شاير، طارق قيزاني  

 ترجمة: مي اسماعيل 

يقول أغلب الأطباء العاملين في الشرق الأوسط إنهم تعرضوا للعنف في مكان العمل، ومنذ بدء الجائحة عام 2020 تزايد عدد التقارير عن حوادث الاعتداء عليهم؛ وكذلك ارتفع عدد الأطباء الذين غادروا بلادهم. 

هاجم رجل بسكين طبيبا وأحد العاملين بالمستشفى وسط مصر الصيف الماضي، وفي مستشفى بمنطقة السويس حاول زوج امرأة حامل ضرب طبيبتها النسائيَّة لأن الزوجين اختلفا مع الموعد المحتمل للولادة. وبمنطقة جنوب تونس ألقى المرضى كرسيا على طبيبة طوارئ شابة، وأجبروها على حبس نفسها في مكتبها حتى جاءت الشرطة.


 ولم يزد السبب عن قولها للمريض أن يتوجه الى العيادة الخارجيّة بدلاً من ردهة الطوارئ. من المعتاد في العراق أن ترافق العائلات المريض إلى المستشفى، ويبلغ الأطباء بانتظام عن تهديدات وعنف من هؤلاء إذا لم يتحسّن المريض. وكشف مسح شمل الأطباء بمستشفيات بغداد عام 2021 أن 87 بالمئة منهم تعرضوا لعنف لفظي أو جسدي أثناء العمل خلال الأشهر الستة السابقة؛ وكانت أغلب مصادر ذلك العنف (بنسبة نحو 94 بالمئة) هم المرضى أو عائلاتهم. 

وجد استطلاع لهؤلاء العاملين في دول الشرق الأوسط ان نحو 67 - 80 بالمئة من الأطباء وكادر التمريض أبلغوا عن التعرض لعنف جسدي أو لغوي أثناء العمل. كما كشف الاستطلاع أنّ الأطباء الأصغر سناً؛ عادة أقل من أربعين سنة؛ يتحملون العبء الأكبر لهذا النوع من المضايقات. وازدادت الحالة سوءا خلال السنوات الثلاث الماضية بسبب جائحة كورونا؛ إذ تبين وفقا لمسح نشره المجلس الدولي للتمريض عام 2022 ان هناك.. "تكرارا أعلى للحوادث "العنيفة" منذ بدء الجائحة". وتقول السلطات الطبية في الشرق الاوسط والدول المحيطة أن الجائحة كانت نقطة تحول أدت إلى زيادة هجرة الأطباء. فعلى سبيل المثال خلصت "نقابة الاطباء المصريّة" (التي تمثل آلاف الأطباء بمصر) مؤخرا أن عدد الأطباء المستقيلين من القطاع العام في البلاد عام 2022 كان الأعلى منذ سبع سنوات. وخلال العام الماضي ترك 4261 طبيبا وظائفهم وتقدموا بطلبات للحصول على شهادات تسمح لهم بالعمل خارج البلاد. 


هجرة الآلاف

أفادت الجمعيّة الطبيّة التركيّة أنّه خلال عام 2021 طلب 1405 أطباء محليين شهادات تسمح لهم بالتقدم لوظائف في الخارج. وكتبت رئيسة الجمعية "سيبنيم كورور فينكانسي" على مواقع التواصل الاجتماعي قائلة: "هل تدركون أنّنا نفقد أطباءنا الذين يعيشون واقعا عنيفا كل يوم، ولا يجدون مكافأة لجهودهم؟".. تنبّأت فينكانسي أن الأعداد ستستمر بالازدياد. وفي تونس أعلنت نقابات العاملين ان نحو 2700 طبيب غادروا البلد سنة 2022؛ مقارنة بثمانمئة سنة 2018. وبيّنت أن نحو أربعين بالمئة من الأطباء التونسيين الشباب يفكرون بالمغادرة. وقدرت منظمة الصحة العالمية عام 2021 ان نحو أربعين بالمئة من أطباء لبنان قد هاجروا، كما أبلغت الهيئات الطبية اللبنانيَّة هذا العام ان نحو ثلث الأطباء المتبقين يخططون للمغادرة. 

رغم أن تعريف العنف والاعتداء في مكان العمل يتباين من دراسة لأخرى، لكن الاستطلاعات العلمية حول العالم ترى أن الهجوم على الاطباء وكوادر التمريض مسألة شائعة في كل مكان. ورغم ان الاطباء من الشرق الأوسط يرغبون بالعمل في أوروبا أو دول الخليج الغنيَّة؛ لكن العنف موجود هناك أيضا. إذ كشف استطلاع عام 2015 للأطباء الألمان ان 73 بالمئة منهم واجه "تصرفا عدوانيا" خلال السنة السابقة. وقال ثلاثة ارباع المشتركين في استطلاع عن العنف والتنمر تجاه العاملين بالقطاع الطبي بالسعودية والامارت انهم تعرضوا لسوء المعاملة من قبل المرضى أو أقاربهم. 

إنَّها حلقة مفرغة؛ كما ترى د. "أميمة الحسني"، عضوة المنظمة التونسية للأطباء الشباب، قائلة: "عند تعلّق الأمر بالعنف ضد الاطباء الشباب، أظن ان الاسباب الرئيسية هي ذاتها التي أدت إلى نزوحهم الجماعي.. إنّها قلة الموارد والمعدات والكادر. وعادة ما يجد المرضى وعائلاتهم أنفسهم في مواقف مريعة؛ خاصة لدى الحاجة لخدمات الطوارئ".. وجميع تلك الظروف تتضافر لتُسبب العنف؛ كما تقول. ويؤكد "أحمد الغريري" الذي بدأ بممارسة الطب منذ خمس سنوات، ويعمل بمستشفى جنوب تونس: "يكون المريض في المستشفى بحالة توتر بسبب سوء الظروف. العنف اللفظي منتشر كل يوم؛ ورغم انني لم أتعرض للضرب؛ لكن أحد زملائي الأكبر سنا تعرض له. تكمن المشكلة في النظام الصحي بأكمله، وقد دفع العنف العديد من الأطباء إلى المغادرة؛ لكن هناك أسبابا اخرى أيضا. واذا توفرت لي الفرصة فسأُغادر من دون تردد". 


امتيازات شخصيَّة

كلما كانت العيادات أو المستشفيات الحكومية غير منظمة أو غير مجهزة، كانت الأمور أسوأ. يشتكي الاطباء في بعض الدول ان ادارة المستشفيات يجري توزيعها حسب القرب من الاحزاب الحاكمة؛ وليس على أساس المهارات أو المعرفة الطبية. ويُلمّح آخرون الى ان المرضى الذين.."يعرفون الاشخاص المناسبين" يتخطون قائمة الانتظار لتلقي العلاج. وهذا يترك المرضى الآخرين أمام ساعات من الانتظار، وقد لا يحصلون على الأدوية الصحيحة أو سرير في ردهة. هنا يستاء الأقارب المرافقون؛ فتبدأ المشاجرات مع كادر أمن المستشفى أو الأطباء المعالجين. يقول "يحيى دوار"، الطبيب المصري والناطق باسم جمعية الأطباء بالقاهرة؛ انه كلما ارتفع عدد الأطباء المهاجرين ساءت الأحوال في المستشفيات العامة. وهذا يعني مزيدا من احتمالات العنف؛ مع توسع المجال للمعلومات المضللة والإضرار بسمعة الأطباء المحليين، مؤديا لمزيد من العنف. 

هناك غالبا قلة من المعرفة لما يستطيع أو لا يستطيع الطبيب أن يفعله؛ كما يقول د. "يحيى دوار": "يردنا مرضى يقولون إنّهم لا يرغبون بتلقي العلاج لأنَّ الطبيب قال شيئا فسروه على أنه فأل سيئ". ويبدو أن دراسة استقصائية عام 2019 لاتجاهات الأطباء المصريين الشباب في مجلة الصحة لشرق المتوسط تؤكد ذلك؛ إذ لم يشعر الا نحو خمسة بالمئة من الاطباء انهم موضع تقدير من البلد، كما لم يشعر ثلاثة أرباعهم بالرضا عن علاقتهم مع المرضى. ويرى هذا الطبيب أن الأطباء بحاجة لمزيد من التدريب عن أفضل السبل للتواصل مع المرضى، عن مواضيع مثل التراضي المستنير والعواقب الطبية ونتائج المعالجة. أما د. الحسني فتقول: "أسباب نزوح الأطباء الشباب عديدة؛ فهم يغادرون لأنّهم يطمحون بالحصول على راتب أفضل، ولكن أيضا لتحسين نوعية حياتهم وبيئة عملهم". لم تفقد الحسني الأمل بتحسّن الأمور، وترى أن تحسين البنية التحتيّة والرواتب لقطاع الصحة العام سيكون خطوة أولى مهمة نحو كسر دائرة العنف التي طال أمدها ضد الأطباء وكوادر التمريض.

موقع "دويتشه فيله" الألماني