يقظان التقي
رحلت الفنانة التشكيلية والناقدة اللبنانية لور غريب عن عمر 92 عاما (دير القمر 1931 - 2023)، بعد مسار طويل في الكتابة الصحافية في جريدة «النهار»، وقبلها في «لوريان» و«لوجور» (اللتين انضمتا لاحقا في لوريان لوجور)، بتعددية الاهتمامات، والممارسات الثقافية، في الكتابة والترجمة، وفي صداقاتها الشعرية منذ أيام مجلة شعر، التي قادتها إلى الشعر، ويوسف الخال وادونيس وأنسي الحاج، وفؤاد رفقة، وشعراء المجلة، وشوقي أبي شقرا رئيس القسم الثقافي في النهارحيث مكثت طويلا.
فنانة مقاربتها لغة الرسم، من التجريب الاختباري الفني، والمديني، بين بيئة المثقفين والمجتمع المديني، وشارع الحمراء المكتظ في الستينات باختلاط (شعراء، وكتابا، وموسيقيين، وفنانيين، ومناضلين تربويين وجامعيين، ونقابيين).
ترافقنا مرتين إلى معرض آرت دبي. عالم لور غريب، من طبيعة شخصية مهادنة، حذرة بين العفوية الخالصة، والحنكة النسوية والشقاوة. امرأة تهكمية ساخرة حداثيا، تتحرك يديها جيدا في الرسم، وفي «الكلام السليط» ـ على جرأتها، ومقاربتها السوسيولوجية المدينية. لور غريّب ورشة عاطفية مبعثرة بين حدّي الكسر العاطفي والصلابة، وفوق ضحكة نافذة، جامعة لاجتماع عريض. ضحكات في لوحة، ولوحة في ضحكات، حكايات، خبريّات، أحلام، خربشات، في تجريب من طبيعة لينة لامتنهاية. أعمال تخطيطية، وتنقيطية، وبالحبر الاسود والرصاص اشارات عاطفية، باسلوب غني بالتفاصيل، وتكوينات باستيهامات «الف ليلة وليلة»، والخطوطية، والمنمنمات. رسوم بالفحم وبالبيض والاسود الكلاسيكي. تسعون كادت لا تهدأ انتقلت فيها إلى أعمال الخيطان الملونة والكولاج متأثرة بتجارب فنية عايشتها مع الجيل الثاني من رواد الفن التشكيلي اللبناني. الناقدة والمترجمة تغادر المدينة على غموض كخيوطها العالقة في المكان، وزوجها الممثل القدير انطوان كرباح في مكان بعيد آخر. ثنائي صديق في البحث، والجهد، والنقد. هو على خشبة المسرح، وهي في مسرح الكتابة، تجيد اللغة، وتتمتع بحضور ظريف رائع، وبنضارة الضوء في العديد من المعارض، التي أقامتها في غاليري «جانين ربيز»، عند صديقتها ومصممة رؤاها نادين بكداش، في أفق لوني بارز بتلاوين فيها الشعر، والنثر، والخط، والانخراط في وظيفة فنية، اجتماعية، مباشرة من دون رجعة، وبلا انتساب محدد لمدرسة تشكيلية، أو تكرارات لغوية، أو سيميائية. أمرأة مليئة بعيدا عن هشاشة الحياة، وبضحكات مزخرفة، ساخرة مجهولة الجذور، تعرف كيف تصيغ عبارتها النقدية بلا ديباجات، وبلا تراكيب، وبشغف لا يشبه الآخرين. هي من مجانين الحرية النسوية، ممهورة بزمن جميل، ومن الاعجاب باسلوبيتها فن الارابيسك)، خارج اي رقابة، أو تعنت، سوريالية أحيانا في طريقة تعبيرها الشكلية الفنية، وتنقطية عابرة في شخصيتها، مدهشة من دون بلاغة احتفالية.
لور غريب ظاهرة متعددة في التزام الكتابة في الساحة التشكيلية،والموسيقية، والمسرحية، حتى آخر حياتها، وقد أكملت رسالتها بجهود كبيرة، خاصة أنها عانت في سنواتها الاخيرة كما زوجها تراجعا في صحتهما. من زمن خصب على انفتاح، مغامر في نظراته، وبمراحعته الحيّة. تؤكد انتماءها إلى الصحافة بشمولية، بانخراطها في الكتابة لعقود من السنيين، ومجايلة ابنها، (مازن كرباج 2001- 2015) في الرسم والعرض في غاليري جانين ربيز، وفي معرض دبي، إلى ثنائية الزوجة داخل العمل،وخارجه، ناقدة ومترجمة، وفي النتاج النقدي والفني، وليست من خارجه. رفقتها كانت موحيّة جدا، مثل الأغاني اللبنانية الأصيلة، حساسة جدا، من دون الوقوع في التنازلات الفنية، عبرت عميقا في وجدان المدينة بيروت، من علامات الزمن الجميل، الذي لا يقل تأثيرا في وظيفته التجديدية الفنية، الصحافية، الاجتماعية والسياسية. التزمت حرية تعبيرية، أكثر التصاقا بالحياة، والغبطة تلك الروح التي عاشت بأ وضاع مدينة مفتوحة. اي ابداع! تلك التي فقدت الاتصال بنفسها، المغلقة على قيمها. أمور كثيرة تغيرت. كل شيء، ليس في المعنى التي كانت تتمناه لور غريب، وسربها، ورؤيا عالم جميل تملكّ الكثيرين بتعب وابداع. لكن يمكن أن تحتفظ بشيء واحد مهم: حب المدينة، بيروت.