المايسترو الاماراتي.. محاولة في التجريب المونادرامي

منصة 2023/02/26
...

 أ.د. حسين علي هارف

لا يمكن لأحد أن يصنف التمثيل الايمائي الصامت ضمن عروض المونودراما، لكن العرض الاماراتي (المايسترو)، والذي قد قدّمته فرقة مسرح دبا الفجيرة في اليوم الأول من أيام مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما قد زرع الشك في هذا الطرح.. فها نحن أمام عرض يجمع بمهارة وجمال بين الفنين الذين كثيراً ما يتغذيان على بعضهما.. دون أن يلتقيا في إطار فني محسوب ودقيق التبويب والتصنيف.


لا ينتمي هذا العرض إلى فن التمثيل الايمائي الصامت بشكله الكلاسيكي.. فقد تجاوز الطابع الفرجوي الخفيف، الذي يميل لانتزاع الضحك أو التبسم من خلال سكيتشات خفيفة وسريعة.

ولم يكتف العرض بموضوعات بسيطة تتقيد بها عادةً عروض البانتومايم، ولم يكتفِ بمهارات ادائية للممثل الذي يكون هو البؤرة والمتسيد المطلق في مثل هكذا عروض، بل إن العرض قد فجّر صراعا دراميا بين الحياة والموت، بين الإنسان وغريزة التدمير الحيوانية، بين الموسيقى وصخب الحرب وضجيجها.. بين التناغم والنشاز.. بين الصفاء والتشويش.

فالمايسترو الذي يخفق في الشروع ببدء سيمفونية الموسيقى (حيث الجمال والحياة) يواجه في كل محاولة بأصوات انفجارات تدميرية تحاول اسكات صوت الموسيقى.

وفي كل مرة يهوي المايسترو ساقطا في حفرة يبدأ في النهوض ومحاولة التحليق نحو الاعلى مجددا، كي يصل إلى مناطق لم يطلها الدمار والضجيج والصخب.. حتى ينتهي الأمر بأن تتمكن الموسيقى من القضاء على المدفع واقصائه، المدفع الذي لا يرمز إلى الحرب وحسب، بل إلى كل مسببات وعوامل التدمير، والافساد، ومظاهر القبح، والشر.

حقق المخرج عروة العربي من سوريا رؤيته عبر معالجة سينوغرافية (بصرية رقمية) متقنة حققت للعرض جماليات مضافة عززت دراميته.. وهذه إحدى ميزات العرض الذي نأى بنفسه عن السردية التي غالبا ما تتميز بها المونودراما وتمثل أبرز مخاطرها، فقد ارتبط العرض بالفعل الآني لما يحدث للمايسترو (الآن وهنا).. وبذلك مثلت هذه (الآنية) أحد نقاط قوة هذا العرض المونودرامي التجريبي.

نعم، فهذه تجربة جديدة تنطوي على ابتكار فني اقترب كثيراً من الابداع، لأنها كانت محاولة جريئة ومحسوبة ومدروسة في التجريب في فن المونودراما التي تمثل في اطارها الكلاسيكي بحد ذاته مغامرة كبيرة تنطوي على مخاطرة.

فكيف إذا كان السعي نحو التجريب في هذا الفن صعب المراس والتقديم.

نحن أمام تجربة جديدة، تجربة سأطلق عليها (مونودراما ايمائية) لكنها لم تكن صامتة بل مموسقة وموقعة.

ممثل الشخصية المونودرامية في هذا العرض ابراهيم القحومي - الذي غامر المخرج به بسبب بدانته النسبية بحسب وصفه - كان ذا حضور أخّاذ وظل خفيفا ومحببا، ولكنه ربما يكون قد افتقد إلى التكتيك المناسب في افعال محددة في هذا العرض ومنها التحليق نحو الأعلى بعد السقوط في الحفرة.

الممثل ابراهيم القحومي امتلك حضوراً كوميديا كشف عنه منذ دخوله الاستهلالي الأول لكن المخرج على عدم التواصل مع هذا النفس الكوميدي بفعل الانقياد إلى درامية الاحداث المتلاحقة والملاحقة للمايسترو.

امتلك العرض ايقاعا متقناً تولى ضبطه المخرج عبر اداء ممثله المايسترو وممثلته فنيًا (السينوغرافيا) المتمثلة بالشاشة والقطع الديكورية الاكسسوارية، إذ اعتمد العرض سيونوغرافيا رقمية شاركت الممثل في دور البطولة الفنية والحضور المونودرامي.

العرض خلطة فنية ناجحة بين ما هو ايمائي ودرامي ورقمي وبصري، إذ اتقن المخرج مزج عناصر العرض (الضوء، الموسيقى، المكياج، المنظر الرقمي، المنظر المجسم، الزي) لينتجوا حضورا هارمونياً نجح في تحقيق الدهشة والابهار البصري.

لقد اثبت العرض قدرة المونودراما على أن تكون ميدانا للتجريب على مستوى الشكل والمضمون الدرامي.

لقد اختزل الفعل الايمائي الدلالات السيميائية للحدث الدرامي فسقوط الحفرة هي كلّ الانكسارات التي يعيشها الإنسان في هذا العالم المضطرب، وسقوط الضوء هو سقوط الامل واستشرافه، والموسيقى أسقطت المدفع الذي يرمز لكل ما هو ظلامي وتدميري.

ممثل العرض ابراهيم القحمي ورغم افتقاده للرشاقة التي يتطلبها الدور، إلا أنه اثبت حضوره منذ الدخول الأول وظل ممسكا بالشخصية وبالجمهور الذي تفاعل معه كثيرا. وبالرغم من اجادته لدور المايسترو وخفة حركته والضبط الايقاعي الذي تميز به اداؤه، إلا انه افتقد إلى الرشاقة والمرونة ودقة الافعال الحركية في مشاهد التحليق نحو الاعلى، فبدا لنا ثابتا على الأرض..

وقد أحكم الممثل تعامله مع الشاشة الرقمية وتحولاتها المشهدية والمنظرية وتناغم معها وفق قاعدة (الاستلام والتسليم)، التي تحكم عادة الممثل مع الممثل الشريك.

لقد كشف المايسترو صعوبة الحياة يوما بعد يوم على كوكب الارض (حروب، مجاعات، أوبئة، تلوّث، زلازل)، ليُصارع هذه الحياة ويُصر على الاستمرار والتقدم نحو الامام، لأنه الخيار الوحيد للصمود، ويقود فرقته الموسيقية متأملا ومؤمنا بأن الموسيقى هي خلاصنا..

كان العرض احتجاجيا (إنسانيا) في خطابه الفكري والجمالي، اذ قدّم عبر شخصية الموسيقي المايسترو احتجاجا صامتا (محتدما) على ضجيج الحرب ومآسيها.. (إلى أي هاوية رحبةً رحبة نصعد)، فكان الصوت المونودرامي هنا صوتاً إنسانياً لا يمثل (الفرد) بل يمثل الإنسان والإنسانية، وبالنتيجة انطلق هذا العرض المونودرامي نحو (الجمعية)، التي مثّلها الصوت المونودرامي للمايسترو. لقد كنّا ازاء عرض ممتع ومدهش حلّق في الفضاء المونودرامي عالياً.