الولايات المتحدة والصين تتباريان في المنطقة الضبابيَّة

بانوراما 2023/02/26
...

 إدوارد وونغ وإيرك شمدت وجوليان بارنز

 ترجمة: أنيس الصفار                                             

خلال حقبة الحرب الباردة كان الخوف مستحوذاً على الستراتيجيين الأميركيين، خشية ان يتخطى الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة في مجال انتاج الاسلحة، وهو أمر قد تنجم عنه ما تسمى "الفجوة الصاروخية". أما اليوم، فيشعر المسؤولون الأميركيون بالقلق من وجود فجوة فعلية متحققة هي "فجوة الفضاء القريب"، ومن الحضور الصيني المتزايد في هذه المنطقة.

منطقة الفضاء القريب (ما دون الفضاء)

على ارتفاعات شاهقة فوق الأرض، ولكن دون مستوى المدارات التي تطوف فيها الاقمار الاصطناعية، تجري كلتا الولايات المتحدة والصين اختبارات على أنظمة دفاع جديدة. استغلال الصين لهذه المنطقة بطائراتها واسلحتها المتطورة يدل على أنها تزحف حثيثاً للتفوق على القوة العظمى المنافسة لها في ميادين مهمة.

هذه المنازلة الستراتيجية، التي لا يعرف عنها ولا يظهر الى العلن إلا القليل، من أجل كسب منطقة "الفضاء القريب" (وهي عبارة بدأت تتردد فجأة على شفاه السياسيين وصناع السياسة الأميركيين)، تتصاعد أهميتها في شحذ ادوات الحرب المتطورة وانواع معينة من اساليب التجسس.

"الفضاء القريب" هو فضاء حدودي انتقالي .. عالم سفلي ضمن الستراتوسفير لا تحكمه القوانين الدولية ولا تهيمن عليه أية قوة عسكرية. في هذه المنطقة يمكن للصواريخ الاسرع من الصوت وللطائرات الفضائية أن تطير كما تشاء ولمناطيد المراقبة أن تسبح دون أن تلتقطها 

الرادارات.

أخذ الجيش الصيني، الذي فاجأ الولايات المتحدة باستخدامه الصواريخ أسرع من الصوت والمناطيد، بالتركيز منذ سنوات على تطوير قدراته في منطقة الفضاء القريب، الذي ينظر اليه عموماً بأنه بين 60 ألفًا و330 ألف قدم فوق سطح الأرض (أي ما يعادل 18 إلى 100 كيلومتر)، وهي منطقة لا تتحرك فيها مركبة طائرة 

مدنية.

يحذر القادة العسكريون وصناع السياسة والمشرعون في الولايات المتحدة من أن الصين ربما تكون قد تقدمت عليهم في التفكير ستراتيجياً بشأن منطقة "الفضاء القريب"، ونشر وسائلها فيها، وأن على الولايات المتحدة التحرك لمواجهة المشكلة التي بدأت بوادرها تلوح

هناك.

في خطابه يوم 16 شباط، الذي ركز فيه على الاحداث المثيرة للتحفز بخصوص منطاد التجسس وثلاثة اجسام طائرة اخرى لم تشخص هويتها (ولعلها غير مؤذية)، قال الرئيس بايدن إنه سيطلب من وزير الخارجية "أنتوني بلنكن" العمل على اقامة ما وصفها بالمعايير الدولية المشتركة ضمن هذا الحيز من الفضاء الذي تنعدم في الانظمة والضوابط الى حد كبير.

هذا الأمر سوف يصبح اكثر إلحاحاً إذ تتنافس القوى العظمى لكسب موطئ قدم لها في مناطق الارتفاعات العالية الرمادية.

يقول "ماثيو بوتنجر"، الذي شغل منصب مساعد مستشار الأمن القومي في ادارة الرئيس ترامب: "علينا أخذ برنامج "زبلن الأحمر" الصيني مأخذاً جدياً." مشيراً بهذا إلى برنامج مناطيد التجسس الذي تعمل عليه الصين.

يضيف بوتنجر قائلاً: "لقد كتب الجيش الصيني متحدثاً عن مجموعة متنوعة من التطبيقات المستقبلية للمناطيد والطائرات المسيرة في منطقة الفضاء القريب. فأنت من هناك بوسعك اعتراض الاتصالات التي لا يمكن التقاطها في الفضاء، كما يمكنك المكوث لفترات أطول من الزمن فوق الاهداف، أو دراسة أنظمة رادار الخصم والتداخل معها واستهداف اقماره الاصطناعية والمساعدة في توجيه أسلحتك الستراتيجية نحو اهدافها."


ساحة منازلة جديدة

شدد الباحثون العسكريون الصينيون خلال السنوات الأخيرة على ضرورة منع الولايات المتحدة من تحقيق التفوق في منطقة الفضاء القريب. ففي العام 2018 نشرت صحيفة "جيش التحرير" اليومية، وهي الصحيفة الرسمية للجيش الصيني، مقالة ورد فيها "لقد تحول الفضاء القريب الى ساحة منازلة جديدة ضمن اساليب الحرب المعاصرة". ثم عادت الصحيفة نفسها خلال العام 2020 لتقول: "هناك دول في شتى انحاء العالم ماضية بتسريع وتائر البحث في اسلحة الفضاء القريب." مضيفة أن مناطيد الفضاء القريب ذات المحركات لا تقيدها الميكانيكا المدارية كما انها لا تحتاج الى منشآت اطلاق ارضية باهظة التكاليف".

قال الباحثون العسكريون الصينيون إن المناطيد المزودة بالمحركات يمكن ان تكون بديلاً عن الأقمار الاصطناعية، بما في ذلك حالات تعرض الاقمار للإصابة والتوقف في ظروف الحرب. في العام الماضي أجرت الصين تجارب على استخدام الصواريخ لإرسال مناطيد الى ارتفاعات بلغت اكثر من 40 كيلومتراً فوق سطح

الأرض.

يقول "جون كالفر"، وهو محلل استخبارات أميركي سابق متخصص بالشأن الصيني، إن فرعاً في الجيش الصيني يدعى "قوة الدعم الستراتيجي" هو المسؤول على الأرجح عن الاشراف على برامج الفضاء القريب، وهو يرفع تقاريره مباشرة الى اللجنة العسكرية المركزية التي يرأسها الزعيم الصيني "شي جنبنغ". الفرع المذكور مكافئ لبقية فروع الجيش الصيني ولا يقل شأناً عنها وهو يشرف على برامج الفضاء وجمع المعلومات الاستخبارية الخاصة بالاتصالات الالكترونية والعمليات السبرانية.  

لكن في الوقت الذي يعبر فيه مسؤولو الجيش الصيني عن قلقهم الشديد من توسع الأميركيين في منطقة الفضاء القريب يبدو أن الحكومة الأميركية لا تولي تلك المنطقة اهتماماً كبيراً في واقع الأمر، كما يقول مسؤولون أميركيون سابقون وحاليون. 

جانب من السبب وراء ذلك هو ان الوكالات العسكرية والاستخبارية قد عكفت على استخدام الميزانيات المخصصة للفضاء في نشر وسائلها الى الفضاء الخارجي الأبعد، مثل اقمار المراقبة الحكومية العديدة التي تدور حول الكرة الارضية، فكانت النتيجة هي افتقار الولايات المتحدة الى وسائل جمع المعلومات والقدرات الدفاعية في منطقة الفضاء القريب، وفقاً لأولئك

المسؤولين.

يقول الأدميرال "وليام غورتني"، وهو قائد متقاعد في القيادة الأميركية الشمالية وقيادة الدفاع الجوفضائي لأميركا الشمالية، المعروفة اختصاراً بإسم "نوراد" وقائد سابق لطائرة مقاتلة من طراز "أف أي 18" التابعة للبحرية: "نحن نعرف كيف نرصدها.. ونعرف كيف نتعقبها.. كما نعرف كيفية القضاء عليها، لكن جوهر المشكلة هو إننا لم نكن ملتفتين إليها. هذا القول نفسه يسري على ضرورة تحديد نقاط تقطع الرتق في نسيجنا ومكامن العدو عند تلك النقاط."

يقول المسؤولون الأميركيون إن تقريراً سرياً للمخابرات الأميركية أرسل الى الكونغرس في شهر كانون الثاني الماضي قد اشار الى رصد الجيش اجساماً طائرة مجهولة الهوية على ارتفاعات متعددة، ربما من بينها منطقة الفضاء القريب. 


الولايات المتحدة تتحرك متأخرة

يشير بعض المشرعين إلى أنهم يعتزمون تسليط الاضواء على منطقة الفضاء القريب، وربما ايضاً تخصيص حصة اكبر من ميزانية الدفاع لتلك الجهود. تقول "كرستين غيليبراند" العضو في مجلس الشيوخ الأميركي وفي لجنة الخدمات المسلحة: "توفير الموارد اللازمة للجيش والمجتمع الاستخباري ضرورة أساسية لتمكينهم من اكتشاف ورصد الاجسام في منطقة الفضاء القريب."  

ارتفاعات الاجسام التي تطوف في الفضاء القريب تعتبر مثالية لأداء انظمة عسكرية معينة، وهي الأنظمة التي يبدو أن المبتكرات الصينية قد امتلكت اليد العليا فيها.

منطاد التجسس الصيني، الذي يتعدى طوله 60 متراً، كان يعمل ضمن المدى المناسب المريح لمناطيد المراقبة، كما يقول "مارك لويس" رئيس الابحاث السابق في القوة الجوية الأميركية. لأن الارتفاعات الأعلى كانت ستتطلب منطاداً أكبر وأثقل بكثير، بينما الارتفاعات الأوطأ كانت ستضعه في مهب الرياح الجوية لتتقاذفه وتسوقه الى مسافات أبعد مما حدث.  لكن حتى ضمن الارتفاع المناسب لطيران منطاد التجسس، عند حدود 18 ألف متر تقريباً، بقيت الرياح تمثل مشكلة ويبدو انها قد حرفته عن المسار المقرر له صوب أهداف محددة هي قواعد الطيران العسكري في غوام وهاواي، كما يقول المسؤولون الاميركيون. 

خلال فترة الحرب الباردة أجرى الجيش ووكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة تجارب استخدمت فيها المناطيد للقيام بعمليات المراقبة وبث الشائعات. أحد تلك المناطيد، وكان جزءاً من مشروع موغال، صمم بحيث يطير عالياً ليقوم بالبحث عبر مسافات شاسعة عن الاهتزازات الضعيفة التي تنجم عن اي اختبار نووي. وعندما تحطم أحد تلك المناطيد قرب مدينة روزويل في ولاية نيومكسيكو سمحت الحكومة بنشر نظريات المؤامرة والتحدث عن تحطم مركبة من خارج كوكب الأرض للتغطية على الأمر.

منذ عقدين من الزمن بدأ الجيش الأميركي يدرس عن كثب موضوع استخدام المناطيد والتساؤل إن كان بوسع العلم الحديث تحويل أداة طارئة من أدوات الحرب الباردة إلى جهاز لجمع المعلومات أكثر فعالية.

يقول الدكتور لويس إن المناطيد وسيلة تستحق الاهتمام لأنها واطئة النفقات وبوسعها التموضع ملياً فوق منطقة محددة لفترات أطول مما يمكن للاقمار الاصطناعية، بيد أن المناطيد تصعب السيطرة عليها وإذا ما أضيفت إليها أنظمة دفع لتمكينها من مواجهة التأثيرات الجوية سيثقل وزنها ويقل الحيز المخصص لاستيعاب أجهزة جمع المعلومات.

يقول الدكتور لويس: "لقد درسنا جميع السبل التي تمكننا من السيطرة عليها باستخدام نظام للدفع، لكن ذلك تحول الى مشكلة لأن الدفع يتطلب محركاً، والمحرك يتطلب طاقة، والطاقة تعني وزناً مضافاً والمناطيد تمقت زيادة 

الوزن".

الأسلحة الأسرع من الصوت، وهي نوع جديد ومتقدم من الاسلحة التي تعكف الجيوش في الصين وروسيا والولايات المتحدة على تطويرها، يكون اداؤها أفضل في بيئة الفضاء القريب حيث ينخفض الضغط والكثافة نسبياً وحيث تساعد البرودة ايضاً على منع ارتفاع درجة حرارة الصواريخ اكثر مما يجب.

هذه الاسلحة تستطيع المناورة بسرعة تفوق سرعة الصوت بخمسة أضعاف، واكتشافها واسقاطها أصعب كثيراً. لذا يعمل البنتاغون على تطوير صواريخ كروز اسرع من الصوت ورؤوس حربية انزلاقية قادرة على الطيران عند ارتفاع يتعدى 24 ألف متر، وهو المدى الاقصى الذي لا يستطيع معظم صواريخ الدفاع الجوي تخطيه.

بيد أن الصين قد تقدمت على ما يبدو الى أبعد من هذا الحد، كما يقول مسؤول أميركي سابق، حيث أجرت أكثر من 200 تجربة على صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت. وفي العام 2021 اندهش مسؤولو البنتاغون إزاء اختبارين أجراهما الصينيون على نظام صاروخي أسرع من الصوت قادر على حمل سلاح نووي يقوم ابتداء بوضع السلاح في مدار فضائي، ومن بعد ذلك يمكّنه من الانفصال والهبوط، مخترقاً منطقة الفضاء القريب متوجهاً إلى الأرض.

وصف الجنرال "مارك ميللي" رئيس هيئة الأركان المشتركة الاختبارين حينها بأنهما "قريبان جداً" مما سماه "لحظة سبوتنيك" 

بالنسبة للولايات المتحدة.

تطور الصين والولايات المتحدة ايضاً طائرات فضائية قادرة على الطيران ضمن ارتفاعات مدارية، وكذلك ضمن منطقة الفضاء القريب، ومن الممكن استخدامها في مهمات لوجستية ولجمع المعلومات الاستخبارية، إضافة إلى تنفيذ طلعات مسلحة مستقبلاً في ظروف الحرب. وتبقى خصائص ومواصفات طائرة الفضاء التجريبية الأميركية "أكس – 37 بي" محاطة بالسرية. 


اشكاليَّة القوانين والحدود

يلوح سؤال كبير حول الدفاع الفضائي في القرن الحادي والعشرين: كيف يمكن تحديد النقطة التي ينتهي عندها المجال الجوي الحربي ليبدأ الفضاء من وجهة نظر البنتاغون؟

تزيد الأمر تعقيداً حقيقة عدم وجود تعريف قانوني مقبول لموقع تلك الحدود. يقول "جوليان كيو" الباحث في القانون الدولي من جامعة هوفسترا، إن واضعي القواعد الدولية لا يرون ضرورة ملحة لرسم تلك الحدود، نظراً لأن قلة قليلة من التقنيات فقط تستطيع العمل حالياً ضمن منطقة الفضاء القريب، ويبدو أن مناقشة القوانين والاعراف الخاصة بالفضاء الخارجي الأبعد هي الاكثر إلحاحاً وأهمية.

من دون وجود حدود سيادية أو قوانين دولية تحكم هذه المنطقة لن تستطيع الجيوش معرفة أين سيمكنها العمل على وجه اليقين، أو ربما الإدعاء بأن أي شيء مباح. 

تعرّف قيادة الفضاء في الولايات المتحدة منطقة مسؤوليتها بأنها تبدأ عند 100 كيلومتر فوق سطح البحر، أي على ارتفاع نحو 100 ألف متر، وهي المنطقة المعروفة باسم "خط كارمان" نسبة الى عالم الفيزياء الأميركي هنغاري الأصل "ثيودور فون كارمان".

يقول الدكتور لويس: "أي تعريف للحد الذي يبدأ من عنده الفضاء مسألة اعتباطية، وكل من يزعم خلاف ذلك فإنه يدبر أمرا".

يقول "فكتور رينوار جونيور"، وهو جنرال متقاعد في القوة الجوية وقائد سابق لـ"نوراد"، إن تعريفه "التكتيكي" للفضاء القريب هو: إنه المدى الواقع ما بين 15 و30 ألف متر، لأن ذلك، حسب تقديره، هو المجال الجوي الكافي المناسب للمناورة ولعمل آلات معينة، وبالتأكيد هو الارتفاع المناسب لعمل مناطيد الارتفاعات العالية والطائرات المسيرة والمركبات الخفيفة ذات الدفع". لكن الولايات المتحدة لا تملك تغطية استشعارية كافية في هذه المنطقة، كما يقول مسؤولون عسكريون حاليون وسابقون، وهذا ما كشفته حادثة منطاد التجسس الصيني الأخيرة. فالمسؤولون الأميركيون لم يكتشفوا برنامج مناطيد التجسس الصيني إلاّ بعد سنوات من مباشرته العمل. 

يقول الجنرال رينوار: "علينا أن نتوقع مزيداً من هذه التوغلات". بعد عبور منطاد التجسس فوق البر الأميركي هذا الشهر أعادت "نوراد" ضبط انظمتها الرادارية لجعلها أكثر تحسساً، فكانت النتيجة هي ازدياد عدد الأجسام الملتقطة بشكل واضح. كيف سيمكن البت اذن في ما اذا كان جسما طائرا ما يحلق على ارتفاع شاهق بصدد تنفيذ عملية استطلاع طبيعية، أم أن قوة معينة قد ارسلته بنوايا عدائية؟

يقول الجنرال رينوار: "رغم اقدام الولايات المتحدة على إعادة تعديل انظمة رصدها سيبقى الخصوم يحاولون التنقل بسرعة الى خيارات اخرى لدفعنا الى مزيد من الاستثمار في مجال الدفاع." 

يضيف الجنرال مستطرداً: "يجب أن يكون هذا الجهد منسقاً بين جميع الوكالات التابعة للحكومة الأميركية وحلفائنا من اجل احباط تلك المساعي، ولقد تأخرنا كثيراً في ذلك."


عن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية