كيف تعاش الحياة؟

منصة 2023/03/07
...

  ميادة سفر 

يعتقد البعض للوهلة الأولى أن كتاب سارة بكويل {كيف تعاش الحياة أو حياة مونتاني} من كتب التنمية البشريَّة التي انتشرت في السنوات الأخيرة كالنار في الهشيم، تلك الكتب التي حاولت تقديم النصائح المعلبة لقرّاء يعانون من الكسل وربما من عدم الرغبة في العمل وتجربة الحياة، ويحتاجون لمن يقدم لها فقاعات من أمل عبر تجارب ونصائح تساعدهم في حياتهم، ويبدو أن تلك الكتب لم تفِ بالغرض ولم تقدم منفعة إلا لأصحاب دور النشر التي زادت أرصدتهم المالية من خلال الإقبال الكثيف عليها لا سيما من فئة الشباب.

بالعودة إلى كتاب كيف تعاش الحياة؟

فهو عبارة عن سيرة ذاتية إن صح القول للفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتاني وهو أحد النبلاء وصانع النبيذ الذي عاش في القرن السادس عشر في مقاطعة جنوب فرنسا من العام 1533 إلى العام 1592، وفيه تعيد سارة بكويل إحياء مونتاني عبر سرد حياته بأسلوب شيق وممتع، مستوحى من كتابه "المقالات" الذي صدرت ترجمته العربية عن دار التنوير، ذلك الكتاب الذي سيترك أثراً كبيراً على عدد من المفكرين والفلاسفة، لدرجة أنّ البعض تمنى لو كان هو مؤلفه، ها هي 

فيرجينا وولف تتخيّل كيف سيزدحم الناس أمام بورتريه مونتاني وهم يحدقون النظر في أعماقها يرون وجوههم معكوسة فيها، كما كان حال الفيلسوف الأميركي رالف والدو إيمرسون الذي قال: "بدا الأمر كما لو أني كتبت الكتاب بنفسي"، أما ستيفان زفايغ فقد وجد مونتاني صديقه الصدوق.

الأمر الذي ربما دفع سارة بكويل إلى كتابة هذا الكتاب وهي التي تعرفت على مونتاني بالصدفة كما تقول، حين كانت تبحث عن كتاب يسليها أثناء سفرها في بودابست، فكان أن عثرت على كتاب المقالات لمونتاني في متجر للأشياء المستعملة، تقول: "شككت كثيراً في أني سأستمتع به"، ويبدو أنَّ الأمر كان عكس ما توقعت، بكويل التي شكرت الحظ والحقيقة المونتانيّة القائلة بأنّك تحصل على أفضل ما في الحياة حين لا تحصل على ما اعتقدت أنك تريده. وكما تأثر نيتشه وفولتير وشكسبير وكثيرون غيرهم، تأثرت سارة بكويل بمونتاني، الإحساس ذاته سيجده القارئ جلياً ويلمسه وهو يطالع صفحات كتابها ويترك ملاحظاته على هوامشه، وربما يدوّن مقتطفات 

من مقولات مونتاني التي ضمنتها الكتاب، وربما يعلق بعضاً منها على جدران بيته في لوحات كما فعل مونتاني الذي انتشرت على حيطان غرفته عبارات استلهمها من الحياة وكتاب زمانه.

كتاب سارة بكويل عبارة عن سؤال واحد حمل عنوانه وهو كيف تعاش الحياة؟

وعشرين إجابة شكلت فصوله، تتحدث كل منها عن خلاصة تجربة مونتاني في الحياة والعمل والحب والصداقة والسياسة، في شكل قصص ترويها بكويل مقدمة حياة فيلسوف ما زالت أفكاره تحاكي الواقع حتى يومنا هذا، تستهل إجابتها: لا تقلق بشأن الموت وانتبه الى الإجابتين التي تقول بأن كلاهما حلّين لفقدان الاتجاه في منتصف العمر، خرجتا من تجربة رجل عاش طويلاً بما يكفي لارتكاب أخطاء، ولعيش بدايات زائفة، لكنهما كانتا أيضاً علامة على بداية جلبت ميلاد ذاته الجديدة الكاتبة للمقالات.

في كل فصل من فصول الكتاب لا بدَّ سيقف القارئ متأمّلاً في حياته وتجربته والواقع الذي يعيش فيه، مختبراً تجربة تحاكيه وتلامسه شخصياً، حين يقرأ كيف استهجن مونتاني الحمية المقدّسة للمتعصّبين دينيّاً الذين يعتقدون أنَّ الإله يطلب هذا العنف المتطرّف غير العقلاني إثباتاً للطاعة، لا بدَّ سيقارب ما يعيشه اليوم من إرهاب الجماعات التي تمارس القتل باسم الدين والإله. في ضفة أخرى، لم تغب النساء عن حياة مونتاني من الأم إلى الزوجة والبنات إلى العشيقات، وهو الذي اعتبر غالباً ضد النسويَّة حين برزت حركة نسويَّة في فرنسا القرن السادس عشر، متزامنة مع "المعركة حول النساء"، 

تعد سارة بكويل لو أنَّ مونتاني شارك فيها لا بدَّ أنّه سيأخذ صف مؤيدي النساء، وهو الذي كتب يوماً: "النساء لسن على خطأ حين يرفضن قواعد الحياة التي أُدخلت على العالم، 

طالما أنّ الرجال هم من صنعوها دون مشاركتهن"، ومن المؤكد أو أنَّ مونتاني عاش إلى وقتنا الراهن كان سيكتب العبارة إيّاها بلا تغيير.

كيف تعاش الحياة أو حياة مونتاني.

كتاب مليء بالحياة، وكما شكرت مؤلفته الحظ حين قرأت مقالات مونتاني، علينا أن نشكرها ونشكر الحظ ومونتاني الذي ألهمها هذا الكتاب، والذي لا بدَّ سيشكل علامة 

فارقة في حياة القارئ وإضافة غنيَّة عن فيلسوف عاش في زمان غير زماننا لكنه مازال حيّاً.