المرأة المنسيَّة وراء {يوم المرأة العالمي}

بانوراما 2023/03/11
...

  جيليان بروكيل 

  ترجمة: أنيس الصفار                                 

مع حلول يوم المرأة العالمي تبرز الفرصة لإظهار ما قدمته النساء للتاريخ والمجتمع والسياسة والسوق. لكن، كيف ابتدأ هذا اليوم؟ يشير البعض إلى جذور ممتدة من روسيا الشيوعية .. بينما يتحدث آخرون عن قصة أصلها أميركي .. لكن الحقيقة ليست أياً من الاثنتين .. كما انها الاثنتان معاً .. فقد ابتدأ يوم المرأة العالمي بامرأة من مدينة نيويورك روسية المولد شدّت الرحال إلى روسيا ثم عادت من جديد.

تريزا مالكييل 

ولدت “تريزا سيربر مالكييل” في 1874 في الامبراطورية الروسية، بمنطقة تقع الان غرب أوكرانيا. تنحدر مالكييل من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى وقد نالت نصيباً طيباً من التعليم، إلا ان عائلتها اليهودية كانت عرضة للاضطهاد المستمر، حتى اضطرت للهجرة إلى الولايات المتحدة في 1891 وكان سن الفتاة آنذاك 17 عاماً.

لم يجدها تعليمها كثيراً في مدينة نيويورك، كما تقول المؤرخة “سالي أم ميلر”، اذ وجدت مالكييل نفسها في الوضع المزري ذاته الذي تعيشه كثير من النساء المهاجرات، وحصلت على عمل في مصنع للملابس. كانت ظروف العمل شديدة القسوة: نوبات عمل قد تمتد إلى 18 ساعة في اليوم والاصابات حدث معتاد ولا تحصل النساء إلا على نصف الاجر الذي يحصل عليه الرجال فلا يكاد يكفي لدفع اجور السكن في الشقق المكتظة والمساكن المزدحمة. لذا سرعان ما انضمت مالكييل، مثل كثير من نساء المهاجرين اليهود والإيطاليين آنذاك، إلى الحركة العمالية ومن بعد ذلك أسست اتحاداً للنساء العاملات في مصانع العباءات.

أصبحت مالكييل اشتراكية، وفي سن 26 تزوجت من رجل اشتراكي هو الاخر يعمل محامياً اسمه “ليون مالكييل”. مكّنها دخل زوجها من ترك العمل في مصانع الكد والضنك، ولكن بعد انتقالها للعيش في ضاحية يونكرز وولادة طفلتها واصلت مالكييل نشاطها الحركي، وفقاً لما كتبته ميلر، فراحت تمد يد العون للمهاجرات كما تولت مواقع قيادية في الحزب الاشتراكي الأميركي مع زوجها ثم ساهمت في تأسيس صحيفة اشتراكية هي “نيويورك كول – نداء نيويورك”. (ملاحظة جانبية: ابنتها هنرييتا شاركت هي ايضاً في وقت لاحق بتأسيس مطبوع آخر مع زوجها نلسون بوينتر)

كانت مالكييل صوتاً قوياً انبرى لنصرة مساواة المرأة وحقها في التصويت، رغم انها كانت على حذر من نساء الطبقة العليا غير المهاجرات اللائي كن يتولين قيادة جماعات التصويت النسوية. كانت تجادل في منشوراتها وأعمدتها الصحفية وخطاباتها بأن المساواة الحقيقية – للنساء والاميركيين من أصول أفريقية والمهاجرين والاطفال الكادحين – لا يمكن أن تتحقق الا من خلال الاشتراكيَّة.


اليوم “الوطني” للمرأة

جرياً على هذا السياق طرحت مالكييل فكرة “اليوم الوطني للمرأة” أول مرة في العام 1909. وقد أقيمت المناسبة، وفقاً للمؤرخة “تيما كابلان” من جامعة روتجرز، في سائر انحاء نيويورك، حيث تجمع الآلاف للاستماع للخطابات والقصائد وانشاد الاناشيد الاشتراكية والمطالبة بحق التصويت.

تدعي بعض المواقع على شبكة الانترنت أن اليوم العالمي للمرأة يؤشر إلى أول إضراب عمالي معروف بقيادة النساء، وان ذلك حدث في 8 آذار 1857، او ان مالكييل ارادت تخليد ذكرى هذا الاضراب، ولكن لم يتوفر دليل يشهد على حدوث مثل هذا الاضراب اصلاً. فالصحف التي صدرت آنذاك لم تذكر عنه شيئاً، بالرغم من وجود تغطية وافية لاضرابات عمالية اخرى قادتها النساء قبل ذلك الزمن بعقود في باوتكت ودوفر. اضافة إلى ذلك ان يوم مالكييل الوطني للمرأة في 1909 كان قد انعقد في 23 شباط وليس 8 آذار.

كان أول “يوم وطني” للمرأة فاتحة لسنتين حافلتين بالنسبة لمالكييل. ففي وقت لاحق من العام 1909 حتى 1910 قامت بدعم اضراب كبير لعاملات مصانع القمصان النسائية القصيرة، وهو الاضراب الذي اطلق عليه وصف “انتفاضة العشرين ألفاً”، بمساندة مالية وخطابات وأعمدة نشرت في الصحف. وبعد تحملهن شتاء صعباً عند خط الاعتصام، حققت المضربات نجاحاً مشهوداً حيث حصلن على اجور افضل وساعات عمل أقل، ولو أن اصحاب المعامل رفضوا التزحزح عن موقفهم بشأن المخاوف المتعلقة بالسلامة.

انتهى ذلك الاضراب في تزامن قريب مع الذكرى الثانية ليوم المرأة الوطني في 27 شباط 1910. في هذه المرة شهدت جميع انحاء البلاد احتفالات بالمناسبة وقامت صحيفة “نيويورك تايمز” بتغطية كبيرة للحفل في قاعة “كارنيغي هول” حيث كانت جميع المتحدثات من النساء عدا رجل واحد مستنكر لمواقف الرجال. بحلول العام 1911 كان الأمر قد انتشر حتى بلغ النساء الاشتراكيات في اوروبا وعقدت تجمعات في فيينا، ولو انها عقدت في 18 آذار اكراماً لذكرى الواقعة التي يطلق عليها “كوميونة باريس”، وفقاً لميلر. 

لم تلبث مالكييل أن نشرت كتاباً عنوانه “يوميات مضربة من مصنع القمصان” وهو سرد قصصي خيالي لوقائع الانتفاضة تتولى القيادة فيها شابة أميركية المولد تنضم إلى زميلاتها العاملات من أسر المهاجرين للمطالبة بتحسين ظروف عملهن.


انتكاسة وتقهقر وانبعاث

بيد أن هشاشة موقف المضربات انكشف بقسوة بعد عام من ذلك النصر الظاهري عندما شبت النار في مصنع “تراينغل للقمصان النسائية”، الذي شاركت عاملاته في “انتفاضة العشرين الفاً”، وأسفر الحادث عن وفاة 146 شخصاً بينهم 123 امرأة وفتاة بعد ان اغلق اصحاب المصنع الابواب عليهم. وفي ايامنا هذه يستعيد مزيد من الناس ذكرى الحريق نفسه دون تذكر الانتفاضة التي سبقته، حتى أن مقالة لمجلة تايم إدعت بالخطأ في مقالة لها في العام 1949 أن كتاب مالكييل كان قد صدر في أقاب حادثة الحريق.

مع مرور السنوات اخذت مالكييل تنأى بنفسها عن الحزب الاشتراكي بعد ان اصابها وغيرها من النساء الاحباط المستمر بسبب جنوح قيادته إلى التحيز على اساس الجنس، رغم خطاب الحزب المعلن عن المساواة في الحقوق، وانصرفت إلى تعليم البالغات من نساء المهاجرين. وعندما توفيت في العام 1949 وهي بسن 76 عاماً نشرت صحيفة التايمز نعياً لم تذكر فيه شيئاً عن مساهماتها في “اليوم العالمي للنساء”، الذي صار في ذلك الوقت يستخدم صيغة الجمع (النساء)، وتحول إلى شيء له وزنه بين من يعيشون في بلد شيوعي.

استمرت هذه المناسبة بالتنامي بين النساء اليساريات في اوروبا، ولو ان موعدها المحدد كان يتغير من سنة إلى اخرى. بعدئذ، تعاظمت تداعيات “يوم النساء العالمي” في العام 1917 حتى تحولت إلى اضراب عام انتهى بالقيصر “نيكولاس الثاني” إلى التنحي عن العرش. منذ ذلك الحين اصبحت ذكرى هذه المناسبة محددة باليوم الذي انطلق فيه الاضراب، وهو 8 آذار (الموافق ليوم 23 شباط حسب التقويم اليولياني في روسيا القيصرية). وقد كان هذا اليوم عطلة وطنية في الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية، أما الصين فلا تزال النساء تمنح اجازة من العمل لنصف نهار. بحلول عقد الستينات من القرن الماضي عادت الحركة النسوية إلى الظهور في اوروبا الغربية والولايات المتحدة من جديد واعتمدتها الأمم المتحدة في 1975 يوماً للاحتفال بإنجازات النساء. تتبعت كابلان، وهي المؤرخة من جامعة روتجرز، منشأ الرواية المزيفة لإضراب العام 1857 فوجدت أنها انبثقت من فرنسا خلال الخمسينات حين كان عدد أكبر من نشطاء الحركة النسوية يسعون إلى تهدئة المشاعر السوفييتية.

في القرن الحادي والعشرين نقلت وسائل التواصل الاجتماعية يوم النساء العالمي إلى جيل جديد .. والى فرص تسويق جديدة ربما لم تكن مالكييل لتقرها ولا ملايين النساء الاشتراكيات اللائي أوجدن هذا اليوم.

عن صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية