الصابئة المندائيون.. نورُ الحق والتوحيد والإيمان

ريبورتاج 2023/03/16
...

   حوار: عامر جليل ابراهيم


لا يعرف كثيرون شيئا عن الصابئة ودينهم التوحيدي ولا عن أتباعهم ووجودهم في العراق، ولكنهم وعلى مدى تاريخهم المغرق في القدم، حافظوا على وجودهم، رغم ما عانوه من جورٍ وآلامٍ واضطهادٍ نتيجة تسلط الحكومات الجائرة على العراق. يسمى المندائيون في اللهجة العراقيَّة "الصبّة"، وكلمة الصابئة مشتقة من "صبا" التي تعني باللغة المندائيَّة "اصطبغ" أو "غطس في الماء"، إذ إن الغطس في الماء/ التعميد، أحد أهم شعائرهم الدينيَّة، إذ تعني الصابئة حسب معتقداتهم "المصطبغين بنور الحق والتوحيد والإيمان"..


 ويعدُّ الدين الصابئي أقدم دينٍ توحيدي عُرف على الأرض كما تشير الكثير من المصادر التاريخيَّة، ولا يزال أتباع هذا الدين موجودين في العراق. خاصة في الجنوب منه.

ويحتفل الصابئة المندائيون في كل عامٍ بعيد الخليقة "البرونايا" (الأيام الخمسة البيضاء)، والذي يستمر من (17 – 21 آذار)، حيث تجري خلاله طقوس التعميد ومراسيم الاحتفالات الدينيَّة على ضفاف الأنهار؛ حيث يشكل (التعميد) في الماء ركناً أساسياً في ديانتهم، لأنَّ الماء يعني لديهم الحياة. وتمثل الأيام الخمسة في المنظور المندائي يوماً واحداً متصلاً لا يمكن التفريق فيه بين الليل والنهار.

وعيد الخليقة واحدٌ من أربعة أعياد سنويَّة هي العيد الكبير "دهواربا"، ويوم التعميد الذهبي "الدهفة ديمانه"، وعيد الازدهار "الدهفة حنينا".

جريدة "الصباح" التقت في تحقيقها هذا الشيخ جبار الحلو رئيس طائفة الصابئة في العراق والعالم ليحدثنا عن هذه الطائفة المهمة في المجتمع العراقي والتعريف بمعتقداتهم وأصولهم وإرثهم الحضاري.


* بداية حدثنا عن الفرق بينكم وبين صابئة حرّان؟

ـ صابئة حرّان لا نعرف عن عباداتهم ولا عن أصولهم شيئاً. التقيت بباحثة تونسيَّة في سوريا عام 2011 وعندما تحدثت عن صابئة حران وقلت لها إنَّنا ليست لدينا أيَّة علاقة بهم قالت هم موجودون في سوريا وتعدادهم 2800 شخص، وهم منعزلون وموجودون في اللاذقيَّة، وكانت لدينا رغبة في زيارتهم والتعرف عليهم وعلى كتبهم وعباداتهم ولغتهم، لكنَّ الحرب هناك حالت دون تحقيق ذلك. الحورانيون معروفون بعلم الكواكب، وهناك فرقٌ طبعاً بين عبادة الكواكب وعلم الكواكب. عبادة الكواكب تعدُّ من المحرمات لأنه جاء في كتابنا: لا تسجدوا للشمس والقمر ولا للكواكب السبعة والأبراج الاثني عشر، إنما اسجدوا للحي العظيم الذي وهبها نوراً، ولا نعرف إنْ كانوا يعبدون الكواكب والنجوم ولا يمكنني الجزم بذلك، لأننا لا نعرف عنهم شيئاً ولم يصل لنا من كتبهم شيء.


أول الأديان

* كثيرًا ما تردف كلمة الصابئة بكلمة مندائيَّة هل هي تسمية أم أنَّ هنالك مذهباً آخر للصابئة؟

- الصابئة هي من جذر الفعل الآرامي المندائي "صبا" أي غطس أو التمس أو تعمد في الماء الجاري، والمندائيون من جذر الفعل الآرامي المندائي "دا" التي تعني العلم أو المعرفة، والعلم والمعرفة هما من صفات الحي العظيم جلَّ شأنه. والصابئة المندائيون هم المصطبغون العارفون بدين الحي العظيم؛ لأنَّ دين الصابئة يعدُّ من أوائل الأديان التي أنزلت على آدم رأس الذريَّة، فلدينا الصحائف الأول صحائف آدم، وبعد صحائف آدم كانت هناك صحائف شيت ابن آدم أو شيت الغرس الطيب وتعني بالمندائيَّة دنا نوخت أو ادريس نبي وبعده سام بن نوح وآخر أنبيائنا هو يحيى ابن زكريا عليهما وعلى كل الأنبياء الصلاة والسلام.

* معظم الديانات غير التبشيريَّة ومنها الصابئيَّة تعرضت لسوء فهم، ماذا فعلتم كمرجعيَّة لمحو تلك الصور السيئة عن الطائفة؟ 

ـ كانت أولى بدايات الديانة المندائيَّة ونشوئها في أرض وادي الرافدين جنوبي العراق في أور بالتحديد وانتشرت بعدها في كل أرض العراق وبلاد الشام، ولدينا آثارٌ في فلسطين وفي حوض الأردن الذي عمد فيه نبينا يحيى بن زكريا جموع المصطبغين، وآخر من عمده يحيى هو النبي عيسى عليه السلام في حوض الأردن، ولدينا آثارٌ في (طيب ماثة) في ميسان وهنالك وجدوا من اللقى والقحوف وحتى مسكوكات نقديَّة عليها اللغة المندائيَّة وهذه دلالة أنَّ المندائيَّة كانت منتشرة في ذلك الوقت.


أحكامٌ خاطئة

* يقال أنَّكم تخنقون الذبيحة ولا تذبحونها، هل ما يتداوله الناس حول ذلك صحيح؟

ـ ليس صحيحاً أبداً، ومردُّ هذه الأقاويل يعود الى أمرين أولهما أنَّ رجال الدين لم يوضحوا حقيقة الدين المندائي للملأ، والأمر الثاني هو انغلاق المجتمع وعدم انفتاحه على الصابئة ومعرفة طقوسهم الدينيَّة. أذكر لك حادثة أنه جاءني أحد رجال الدين من النجف الأشرف وقال لي إنَّي قرأت كتبكم وعرفت أنكم أناسٌ موحدون، ولكنْ لدي سؤالٌ بخصوص مسألة الذبح أود أنْ ألقى إجابته عندك هل صحيح أنكم تخنقون الذبيحة؟ قلت له انتظر سأجيبك عن سؤالك فأخذت إحدى الدجاجات ثم توضأت ونحن نسميها (رشامة) ولبست ملابسي الدينيَّة وذبحتها باسم الحي فنظر الى الدجاجة وقال هذا ذبحٌ ودمٌ فأجبته أنك قد رأيت بأمِّ عينيك كيف نذبح الذبيحة. عندنا الدم محرم فإنْ ذبحت ذبيحة وجرح أحد أصابعي وسقط دمٌ من إصبعي على الذبيحة يعدُّ الذبح باطلاً. لذلك كل ما يقال بخصوص هذه الأمور غير صحيحٍ ولا أخفيك سراً أنَّ عدم انتشار اللغة المندائيَّة وانغلاقها أدى الى أحكامٍ وشائعات كثيرة من قبيل من يقول إننا نعبد الكواكب أو أننا نعبد الملائكة، وآخرون يقولون إننا نعبد الماء وغيرها من الأقاويل الخاطئة عنا.

وعلى الباحث والكاتب والمؤرخ أنْ يأتي إلينا ويطلع على كتبنا وحقيقة ديننا ثم يطلق أحكامه علينا. كتابنا ترجم سنة 2000 ووزع بين كل المرجعيات الدينيَّة والمكتبات وكثيراً ما نظهر على وسائل الإعلام ونوضح حقيقة الدين المندائي، ولا أدري بالضبط لماذا لا يريد الآخر أنْ يعرفَ جوهر ديننا. كنت أتمنى أنْ تكون لدينا قناة فضائيَّة يتعرف الناس عن طريقها على ديننا وعاداتنا لكنْ للأسف ليست لدينا الإمكانيَّة الماديَّة لذلك. وحسناً فعلت قناة عشتار الفضائيَّة مشكورة عندما خصصت ساعة بث أسبوعيَّة كل يوم أحد عبر برنامجها يوضح حقيقة الدين المندائي.


كفاءاتنا مهمشة

*هل ما زالتم تعانون التهميش؟ 

ـ نعم، نحن مهمشون بطريقة جائرة في كثير من الأمور. تصور الى الآن لا نمتلك منصب مدير عام بالدولة!، لدى الطائفة كفاءات وكوادر غاية في الإبداع من أطباء ومهندسين وأصحاب شهادات عليا، لكنْ للأسف أغلبهم جليسو البيت وعاطلون عن العمل أو أنَّ طاقاتهم لم تستثمر بالشكل الأمثل. صدقني الكثير من أصحاب الشهادات الجامعيَّة عندنا يأتون إليَّ يتوسلون للتعيين في وظائف لا تتناسب مع ما يحملونه من مؤهلاتٍ علميَّة.


زيادة أعداد الاناث

*هل استنزفت الهجرة خارج البلاد الطائفة المندائيَّة، وهل هناك محاولات لتشجيع أفراد الطائفة على الزواج والإنجاب وزيادة أفرادها؟ 

ـ نحن أصلاً ضد مبدأ الهجرة وترك أرضنا، وفي ما يتعلق بتشجيع الزواج والإنجاب، فأعتقد أنَّ الأمر يعتمدُ على الظروف الماديَّة والاقتصاديَّة. ولا تنسَ أنَّ أغلب الشباب عاطلون عن العمل وكثيراً من شباب الطائفة هاجروا بسبب الظروف الأمنيَّة غير المستقرة التي كانت سائدة، كل هذا أدى الى زيادة أعداد الإناث، أضف الى ذلك الكلفة المرتفعة لمستلزمات الزواج رغم تشجيعنا لحفلات الزواج المجاني... كل هذه الأمور وغيرها أثرت في نسبة الولادات ضمن الطائفة. ناهيك عن ارتفاع حالات الطلاق كعموم المجتمع العراقي. في السابق كانت حفلات الزواج تصل من 5 الى 6 حالات في الأسبوع الواحد وأحياناً يتعدى الرقم العشر حالات، لكنَّ النسبة في الوقت الحاضر لا تتجاوز الحالتين أو الحالة الواحدة وأحياناً لا تكون هناك أيَّة زيجة.


فساد الساسة

* هل فكرتم بزج رجال الدين الصابئة في السياسة؟

ـ أنا من دعاة فصل الدين عن السياسة، لأنَّ على رجل الدين أنْ يكون نقياً ويجب أنْ يبتعدَ عن السياسة، لأنها ـ أي السياسة ـ فيها مراوغة وكذب وحتى دجل. لذلك فإنَّ زج رجل الدين نفسه بالسياسة سيفقد هيبته ويتلوث بأدرانها. فعلى رجل الدين أنْ تبقى عمامته نقيَّة ونظيفة.

* كما نعرف أنَّ نظام الطائفة ديمقراطي ولهم أكثر من مجلسٍ داخل الطائفة نفسها هل ما زال النظام كما هو؟ 

ـ نعم نظامنا هذا ما زال قائماً، فالمجلس الروحاني ينتخب مجلس رجال الدين ويعرض على مجلس العموم وعلى جمعياتنا التي هي موجودة بالخارج والاتحادات ثم ينتخب (الريش مة). نعم نعمل بهذ النظام.


عالم النور

* لماذا ارتبط الصابئة بالماء؟ 

ـ لأنَّ الماء هو أساس الحياة، هذا أولاً، وثانياً نحن نعتمد الماء الحي هنالك أنواعٌ عديدة من المياه (مية تاهمي مية مريري الماء المر مية بيري ماء الآبار)، ومية تاهمي هي مياه البحار لا نستخدمها، نحن عندنا الماء الجاري الذي توجد فيه ديمومة الحياة نستخدمه للصلوات وللغسل من الجنابات وللصباغات والطقوس الكبرى والزواج، فإذا لم يتوفر الماء الجاري لا يمكن تكملة طقوسنا الدينيَّة. لا يوجد تيممٌ عندنا فقط ماء جارٍ وإذا وقف الجريان لا يحق لنا استخدامه الماء.

* لماذا رمز الصابئة صليب وعليه آدم؟ 

ـ (الدرفش): هذه الإشارة هي دلالة على اتجاهات الكون الأربعة شمال شرق جنوب غرب، هو ليس صليباً هذا جلبه جبرائيل الرسول من عالم النور ووضعه على حافة نهر الفرات وقام بصباغة آدم، وأعني عمَّدَ آدم وحواء وزوجهما، استخدمه نبينا يحيى في حوض الأردن ووضعه على الحاف، هو قبسٌ من نورٍ جلب من عوالم النور العليا لكي يضيء هذا العالم، توجد ثلاثة عوالم عندنا: عوالم النور العليا، والعوالم الوسطى التي نعيش عليها والعوالم السفلى وهي الجحيم أو عوالم الظلام، فهذا القبس من النور تميز أو ارتسم بالرداء والرداء من الحرير الخالص يأتي من إيران نسميه (جز) هذا يمثل النور أو الإشعاع.


طقوس مندائيَّة

* طقوسكم في الزواج والإنجاب والوفاة كيف تكون؟

ـ في الزواج يجب أنْ يكون الأشخاص بالغين متفاهمين، هنالك عقدٌ للزواج فيه حاضرٌ وغائبٌ.. وسن البلوغ عندنا هو 18 عاماً وإنْ قلَّ فعلينا أخذ موافقة الآباء في الخارج، لا يجوز التزويج قبل سن البلوغ، وطقوس زواجنا هي ارتداء الزوجين للملابس البيضاء و(الاصطباغ) أي وضع الزوج في (الأندرونة) بيت القصب ويرمز الى الصلابة أو الذكورة وتوضع العروس في الكلّة وأمامها صينيَّة فيها شموعٌ وبخورٌ ودهن ودبس ومرايا وبعض الحلويات والزهور ونرسل محبسين والجوز واللوز والزبيب للزوجة بيد رجل الدين يسألها هل أنتِ موافقة وغير مجبرة، تردُّ بنعم، ثم يلبسها المحبس الذهب الذي يحتوي على شذرتين إحداهما زرقاء تطرد الشر والشذرة الأخرى حمراء ترمز للحب والعاطفة. وبعد ذلك نأتي بالزوج لنحزمه بوصلة خضراء دلالة على اخضرار حياتهم ونضع ظهراً على ظهر ونبدأ بالقراءات دلالة على قوتهما واتحادهما في هذا العالم ثم نضرب رأسيهما تسع مرات برفق من الخلف؛ لأن رقم 9 رقم مقدسٌ عندنا ويرمز الى الولادة الجديدة، توجد تسعة أوعية من الطين ببيت القصب ترمز الى الولادة بها من طيبات الحياة جوز بصل سمك زبيب خبز و26 رغيفاً ترمز الى الولادة الجديدة.

وفي ما يخص الوفاة فإننا نقوم بغسل المتوفى بالماء الجاري بعد خلع ملابسه ونلبسه الكفن المغسول أيضاً بالماء الجاري لأننا نؤمن أنَّ النفس عندما دخلت جسد آدم دخلت نقيَّة طاهرة فيجب أنْ تخرج من الجسد نظيفة ثم نلبسه ونقبله ونضع اكليل الآس الذي يرمز الى الديمومة وهو من نباتات الجنة نضعه على صبغة 45 يوماً ينير له الطريق الى أنْ يصل الميزان كل يوم نقرأ باسمه صلاة خاصة ونأكل الثواب ونشرب الماء باسمه.