موجة الرواية الجديدة في فرنسا

ثقافة 2023/03/18
...

 سلام رحمن التميمي 


إذا كان النقاد قد نسبوا إلى الكُتاب الذين تتألف منهم مدرسة الروائيين الجدد أفكاراً ومتطلبات مشتركة، فذلك يرجع إلى أن بينهم على الأقل قرابة يقول عنها روبير بنجو إنّها سلبيَّة، فهم لا يشتركون في الهدف بل يشتركون في الرفض، أول العناصر المرفوضة وأهمها: الشخصية والقصة. أكد الكاتب الفرنسي ألان روب جرييه - مؤلف (العام الماضي في ماردينباد) و (الغيرة) و(الخالدة) وهو من طليعة الروائيين الجدد – ذلك، وأن كان محور رواياته حادثة دائماً، يحدث شيء ما لشخص ما،  بعبارة أدق، يرفض الروائيون الجدد فكرة معينة عن الشخصية والقصة. وإذا كانوا قد لجؤوا إلى هاتين الكلمتين، فلأن النقد التقليدي عودنا على أن نرى فيهما العنصرين الأساسيين الذي يقوم عليهما السرد، ويعني روب جرييه وأصدقاؤه أن الفكرة التقليدية عن الشخصية والقصة ترتبط بمصير الإنسان وبرؤيته الاجتماعية، وأن هذه الرؤية التي خلفها بلزاك وروائيو القرن التاسع عشر قد أصبحت قديمة وبالية، لكن كيف يتم التخلّص من الشخصيَّة؟ هنا تختلف الآراء والشخصيات، وتوجد في الواقع طريقتان للتخلص منها: تتلخص الطريقة الأولى في استبعادها بكل بساطة، أما الثانية فتطالبها باِلتهام نفسها، اختار روب جرييه الطريق الأول، في حين سلك بيكيت الطريق الثاني. في الحالة الأولى، يكسب العالم الخارجي ما فقده الإنسان من أهمية، ويصبح عالماً جامداً لا ينفذ إليه أحد، عالم يكتفي الإنسان بالنظر إليه، والأشياء فيه ليست ملكاً للشخصيات، بل العكس صحيح. أما في الحالة الثانية، فيتحطم العالم الخارجي ويصبح ذريعة لوعي لا يجد ما يستند إليه، لا في الخارج ولا في الداخل، ويجر في سقطته تلك الشخصية التي أصبحت عاجزة عن تحديد موقفها منه.

خضعت القصة لتحول مماثل، فجعل منها الروائيون مجرد حادثة فقدت السند الذي كانت تجده في نوايا المؤلف فيما مضى، وقد تختفي تماماً كما في رواية روب جرييه (الغيرة)، أو تصبح حركة خالصة، أو اكتشافاً بطيئاً لعالم يستيقظ من غفوته، كما هو الحال في روايات جان كيرول، إن غابت القصة اِهتمَّ القارئ بالمشهد الذي يصفه المؤلف فحسب. وأن وجدت أرجعته إلى نفسها، ومن ثم فقدت قيمتها المثالية، ونلحظ هذا التطور في قصة كلود سيمون (الريح)، إذ تتطور الرواية وفقاً لحادثة من الطراز التقليدي، ينفيها المؤلف في كل صفحة لأن غايته الأساسية بناء روايته ابتداءً من هذا النفي وبناءً عليه. ويترتب على رفض الشخصية والقصة رفض القيم السيكولوجية والأخلاقية والإيديولوجية، لكن هذا لا يعني أن الرواية الجديدة رواية تافهة خالية من المعنى، فالمعنى كامن فيها لكن المؤلف لا يظهره، قد يتبادر إلى ذهننا عندما نقرأ رواية ميشيل بوتور (التغيير) أن المؤلف أراد أن يعالج للمرة الأولى قضية المرأة والرجل من الناحية النفسية، لكن يكفي أن نقرأ الكتاب باِنتباه لكي ندرك أن المؤلف لا يريد – ولايريد منا – أن نعرف ما إذا كان البطل سيتخلى عن زوجته ويعيش مع عشيقته أم لا، فالتغيير في حد ذاته هو ما يعنيه.

تخلص الروائيون الجدد من أخلاقيات الأمس وايديولوجياته ماركسية كانت أم مسيحية أم لا دينية، وخلصوا الإنسان من كافة القيم، أخلاقية كانت أم اجتماعية أم فلسفية، خلصوه من القناع الذي ألبسه إيّاه الروائيون حتى القرن العشرين، واستبدلوا كل هذا بقيمتين اساسيتين: الصراحة واللامعقول. لم تعد هناك موضوعات مباحة وأخرى محرمة، لم تعد هناك موضوعات لائقة وأخرى غير لائقة، الإنسان في الرواية الجديدة يتحدث بصراحة عن كل شيء: الدين، والسياسة، والسلطة، والأخلاق، وأسرار الدولة والأسرة، لم تعد هناك حصون منيعة لا يدخل الروائي فيها، أما الجنس فيلعب الروائيون الجدد به كما يلعبون بالنار، باختصار، انتهكت الصراحة القيم الأخلاقية كافة، وأصبح اللامعقول قاعدة يلتزم بها الإنسان، قاعدة مؤداها أن العالم الذي نعيش فيه عالم غير معقول يفضي إلى العدم. ولا بد أن يدرك الإنسان هذا وإلا كان منافقاً غشاشاً، لا بد أن يدرك أن المجتمع بل العالم الذي يعيش فيه مهدد بالانهيار ويوشك أن يموت.

تستهدف الرواية الجديدة بصفة عامة، البحث عن الإنسان وعن حقيقته العميقة، ويمكن أن نقول بعبارة أكثر شمولاً، إنها تريد أن تفهم مصيره، ولقد ساعد على ذلك توثيق الصلة بين الفلسفة والأدب، خاصة بعد عام 1930، إذ رأينا روائيين مثل سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار يصبون تصورهم للإنسان ورؤياهم للأشياء في قالب الرواية، ومن ثم، كان ابتعاد الأدب عن الخيال شيئاً فشيئاً، واقترابه من تصوير الإنسان تصويراً ميتافيزيقياً، وينطبق هذا على الغالبية العظمى  من الروائيين الجدد، لكن الأحداث التي توالت في السنين الماضية أضفت على الأدب وعلى نظرة الأدباء إلى العالم ألواناً قاتمة، وأفقدت الإنسان كل ما كان يرتكز إليه، وعندئذ أحس هذا الأخير بالضياع، وأراد أن يتجاوز مرحلة اليأس ويجد لحياته معنى، لكن الروائيين ساروا به في رحلة الضياع إلى أبعد حد، وطالبوه بتلك الصراحة التي تحدثنا عنها، وهكذا تصاعد الأدب إلى ما نتفق مع جايتون بيكون على تسميته بالواقعية الميتافيزيقية.

تتفق الرواية الجديدة مع هذه الواقعية الميتافيزيقية ولا تتنكر لها، تتفق معها في المضمون والشكل، فهي تعمل على إحياء أصالة الوجود الفردي، في حين كانت تعمد الأساليب القديمة إلى وصف تصرفات الشخصية وتفسير طباعها، ومن ثم لم يكن ليتسنى لها تصوير تجربة الإنسان الحقة، كانت الرواية القديمة تضفي على الحياة الداخلية تماسكاً ووضوحاً يتنافيان مع الواقع. أما الرواية الجديدة فتتميز برغبتها في النظام، وهي لا تشعر أن هناك سبباً لوجودها إلا إذا فرضت أسلوباً معيناً على واقع غير منظم أساساً، وبدلاً من أن تحاكي الواقع، تناقضه، وتعمل على الهروب من نقله كما هو، أياً كان الدرب الذي تسير فيه، وما يظنه قارئها أنه إخلال بالنظام والوضوح، ماهو إلا النظام والوضوح بعينه، هكذا يفهم الروائيون الجدد التصوير الحقيقي للواقع، ويتسم تصوير الواقع من حيث الشكل بالبساطة والموضوعية في النظرة واللهجة ولا يتدخل المؤلف في السرد مباشرة، ولا يعرض رؤية مباشرة للعالم، بل يحاول أن يوحد بينها وبين مادة الرواية ذاتها، ولا تعني كلمة الموضوعيَّة هنا أن الكاتب الروائي ينظر إلى شخصياته من زاوية  تباعد بينه وبينها، كما كان يفعل الروائيون في الماضي، بل تعني أن الكاتب يحاول أن يكون الشخصية ذاتها، وأن يتحد ذاتياً معها، وأن يمحو دوره بأزائها كمؤلف يوجهها كما يشاء.

ماهو موقف الرواية الجديدة الآن؟ ما من عمل من الأعمال التي قدمها الروائيون الجدد فرض نفسه بحيث نستطيع أن نقارنه بروايات بروست أو دستويفسكي أو حتى مورياك أو موباسان. ولا تكمن أهمية الرواية الجديدة في ما تأتي به من جديد، بل في كونها ظهرت في فترة مرت فيها الرواية بأزمة، وأعتقد فيها الجميع أنها تسير في طريق مسدود، ورأي الجمهور في هذه التجارب لا يقبل الشك، أنها تبعث على الملل، ومن الصعب فهمها وتفسيرها. صحيح أن الرواية الجديدة استرعت الانتباه وحظيت باهتمام المثقفين في عواصم العالم، لكن الجماهير الكبيرة لا تزال تحن إلى الرواية القديمة التي تشتمل على قصة وشخصيات، بل يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت موجة الرواية الجديدة لن تؤكد أهمية الرواية التقليديَّة في الأذهان، ولا يختلف رد فعل الجمهور الفرنسي كثيراً عن ردود فعل الجماهير الأخرى، صحيح أن مؤلفات ناتالي ساروت وألان روب جرييه ترجمت في لندن وطوكيو ونيويورك والقاهرة وبيروت - على سبيل المثال لا الحصر – لكن النقاد استقبلوها استقبالاً قاسياً أو فاتراً حسب الحال، أما الجماهير فلم تتحمس لها كثيراً.

قال البعض بصفة خاصة، أن كثيراً من هذه الروايات غامضة بحيث يصعب فهمها أو يستحيل، مما دعا الكُتاب إلى عرض ما يمكن أن يسمى بنظريتهم في الرواية الجديدة، نذكر في هذا الصدد كتاب ناتالي ساروت (عصر الشك) 1956، وكتاب ألان روب جرييه (من أجل الرواية الجديدة) 1963، وجدير بالملاحظة أن هذه النظريات، إذا جاز التعبير كانت لاحقة للمؤلف لا سابقة له، كتب روب جرييه المقالات المؤلفة لكتابه سالف الذكر بعد أن قدم للجمهور أهم رواياته، وكذلك الأمر بالنسبة لناتالي ساروت التي أكدت هذا القصد عندما كتبت في مقدمة كتابها (عصر الشك): (إن الأهمية التي أثارها النقاش حول الرواية، والأفكار التي عبر عنها المهيمنون على ما يسمى بالرواية الجديدة، حملت الكثيرين على الظن أن هؤلاء الروائيين مجربين جامدين بدؤوا بصياغة النظريات، ثم أرادوا أن يطبقوها في مؤلفاتهم، وهكذا استطاعوا أن يقولوا أن هذه الروايات تجارب معمليَّة).

ولنقل كلمة أخيرة عن عملية الفهم والتفسير، ولننظر إليها لا من وجهة نظر المؤلف: تحولت الرواية الجديدة شيئاً فشيئاً إلى موضوع للبحث لا موضوع للفهم، لقد اعتاد الروائيون في الماضي أن يسردوا قصة تبدو وكأنها جزء متجمّد من الزمان، لذا رأيناهم يلجؤون إلى الفعل الماضي لا المضارع،  بينما تروي لنا الرواية الجديدة قصة في سبيلها إلى الحدوث، قصة تبنى أحداثها تحت أعيننا، وتصور لنا بطلاً يبحث عن ذاته، وتكتمل صورته كلما استطرد في الحديث، ومن ثم كان التجاؤها إلى الفعل المضارع، فالكاتب الروائي الجديد لا يكتب وفقاً لخطة وضعها سلفاً، بل يسلم نفسه لروايته ويدعها تهديه وترشده، وتعلمه مالا يعلمه عن نفسه، وتملي عليه موضوعها وطريقة تناوله هذا الموضوع، وعندما يمسك بالقلم لا يعلم شيئاً عن جوهر العالم الذي يصوره، بل يعمل على التواجد معه والعيش على إيقاعه. وجيمس جويس هو الرائد الأول لهذا الاتجاه، فروايته (يوليسيس) تتطلب قراءتين في آنٍ واحد: الأولى حرفية، والثانيه تفسيرية، وتبحث عن نفسها وتبني نفسها كلما تقدمت في طريق البحث عن ذاتها.

ومن وجهة نظر القارئ، لا تعني كلمة الفهم شيئاً، فالكاتب الروائي الجديد لا يطلب من القارئ أن يفهم شيئاً، ولا ينحو نحو بلزاك أو فلوبير أو دستويفسكي، فيقدم للقارئ مادة هضمت سلفاً، بل يعتبر المشاركة مهمة القارئ الأولى، مشاركة الشخصية تجربتها وحركتها وتصرفاتها تماماً كما فعل المؤلف نفسه، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الروائيين الجدد يعمدون إلى جعل مهمة القارئ أكثر صعوبة، وسواء صوروا الواقع (ساروت)، أو الأشياء (روب جرييه)، أو لجؤوا إلى الحوار الداخلي، فالقارئ مضطر إلى استكشاف ما وراء الكلمات، أو الوصف الموضوعي من أبعاد ومعانٍ.