ثنائيَّة المعلم - التلميذ سينمائيَّاً

ثقافة 2023/03/18
...

 جينا سلطان


غالبا ما تقترن أيقونة المعلم المتمكن في أذهاننا بالهيبة والاحترام، لكونه يستبعد القسوة والتأنيب أثناء إيصال الدرس إلى تلميذه، فيسهل على الأخير ضبط التمرد في داخله، واستيعاب الدرس بطواعية. 

وتحت كلمة الدرس تنطوي متوالية أفكار لا تنضب، تتسربل بمعطيات شتى تخوض في مستنقعات الشك والكراهية والعنف والغضب والاحتقار، وتضعها تحت ضوء مبهر، ثم تعمد إلى تفكيكها، لدمجها في نقائضها، اليقين والمحبة والسلام والثقة بالنفس والتقبل. 

بالمقابل، تلعب ثنائية المعلم التلميذ على وتر الاحتواء العاطفي للإنسان، فيتخذها صناع الدراما السينمائية محفزاً على ترسيخ مفهوم الحوار مع الآخر المختلف عرقيا وثقافيا، وداعماً لقدرة التعاطي مع الفصل العنصري الذي ينطوي على الوجه الأقسى للتنمر. لذلك يتخفى معلم بإهاب عجوز صلب متعنت غربت شمسه نحو الأصيل، في الفيلم الأمريكي غران تورينو  لتتخذ ثنائية المعلم التلميذ مظهراً تبادلياً يخوض في مأزق ثلاثة أشخاص تورطوا في دائرة التداخل العاطفي.

يبدأ الفيلم بتساؤل يلقيه كاهن شاب أمام جثمان زوجة والت كوالسكي عن ماهية الموت والحياة، وعن البداية والنهاية، من دون أن تدل ملامح وجهه على إدراك لمعاني تلك الكلمات، التي بلغته عبر التلقين التبشيري. 

وفي الوقت نفسه، تشكل حادثة اقتحام الجيران الصينيين الجدد لحياة الأرمل مدخلاً لتأطير الصراع الدرامي في الفيلم، وقوامه تبادل الاحتقار العنصري بين أتباع حضارتين مختلفتين؛ شرقية صينية وغربية أمريكية، فيما يتبدى نفور العجوز من دعوة الكاهن لإعادته إلى الإيمان، معبراً لتوسيع مفهوم الغفران الكنسي، ليشمل التكفير، عبر التضحية بالنفس، دفاعاً عن حق الآخر المختلف في الحياة.

وكان كلنت إيستوود في فيلمه الأسبق فتاة المليون دولار  قد أبرز اهتماما كبيراً بعلاقة المعلم والمريد من خلال دور مدرب الملاكمة العجوز الذي يعلم فتاة القاع المهمشة معنى الكرامة الإنسانية، التي تتخلق كلمعة خافتة تصدرها النفس حين تقارب مدارها المنشود. وفي "غران تورينو" يتجاوز النمط التقليدي للثنائية، كي يُغني القيمة الأخلاقية للدرس ويوسع مداه، حين يجد العجوز النزق والت نفسه ملزما بالدفاع عن المراهق الصيني تاو ضد أقرانه من فتية العصابات.

يبرد غليان النزعة العنصرية عندما يكتشف والت في جيرانه الصينيين بديلا عن دفء الأسرة المُغيب من حياته. وحين تضع العائلة ولدها المراهق تاو في خدمة والت عقابا له على محاولة سرقة سيارته القديمة الغران تورينو، تبدأ رحلة نوعية نحو توسيع مدارك النفس وآفاقها. فيتعلم الصبي حرفة بمساعدة العجوز الذي يكثف بدوره خاصية التعاطف الإنساني لديه، ويتيح لها ان تحرره من مصيدة النزعة العنصرية والأفكار العدائية المسبقة، ليجد المعلم وتلميذه نفسيهما في مواجهة انتهاك خطير يهدد بفرملة تجربتهما الفريدة من نوعهما، ويتمثل في عصبة المنحرفين، الذين يغتالون حلم تاو وينتهكون شقيقته.

وتتمظهر حادثة العنف الخطيرة بشكل غير قابل للاستئصال، بحيث تهدد مستقبل الفتى وأسرته، فتنهض جريمة الحرب القديمة التي ارتكبها الجندي والت في كوريا بحق فتية عزل، وتدفعه للدفاع عن ياو بشراسة انتحارية ضد أقرانه المنحرفين. 

ومن ثم، تصبح القيمة الرمزية لحياته معادلة للأضحية المقدمة على مذبح الغفران، وتتحول في الوقت نفسه إلى تفسير للكاهن الشاب يستوعب درس التاريخ البليغ عن تداخل الحياة والموت، ومتى تبدأ التجربة الإنسانية على الصعيد الفردي وكيف تتحور، وإلى أين يمكن أن تنتهي. وقبل أن يغمض والت عينيه يهب تاو الغران تورينو، فضلا عن ميدالية تعود إلى أيام الحرب، في إشارة ضمنية إلى تقاسم المصير بين المختلفين عرقيا.

تعتمد دقة وصول الاستجابة العاطفية إلى مداها التفاعلي الأقصى على براعة النص وقوة رؤيته الإخراجية، وعلى حسن اختيار المكان الأمثل لتطبيق التبادل الحضاري. ففي فيلم غران تورينو تبادل والت مع جيرانه الصينين مشاعر الاحتقار العنصري، ضمن مساحة جغرافية نهضت فوق أشلاء الحضارات، واستعبدت أبناء القارة السمراء لبناء منظومتها الهيكلية الخاصة. بالمقابل، توجه المخرج هارالد زوارت في فيلمه طفل الكاراتيه  نحو الصين، ليقدم الحكاية نفسها.

    فعلى غرار ياو يقع الطفل الأمريكي الخلاسي درى ضحية التعصب العنصري من أقرانه اليافعين الصينيين، مما يحفز لديه رغبة جامحة لتعلم الكونغ فو. 

ويسعفه الحظ بأستاذ معتزل يعمل في صيانة الأجهزة الكهربائية، فيدربه ويهيئه لاستيعاب مبادئ التقنية القتالية الشهيرة وعلاقتها بسريان الطاقة الكونيَّة. وتبدأ رحلة التعلّم عندما يضع المعلم حدا لتهديدات الصبية لدرى، ويتفق مع مدربهم على موعد للتحدي الرسمي، ضمن مهرجان مسابقات الشبيبة، فتتوطد خلال هذه الفترة صداقة مميزة بين المعلم وتلميذه اليتيم.     يكتشف درى منذ اليوم الأول للتدريب وجود سيارة في صالة منزل المعلم، يقوم على إصلاحها بدأب وعناية، وحين يسأله عنها يرفض الإجابة، ويكتفي بتوجيهه نحو إتقان الدرس الأول المتعلق بتطويع الذات وقهر التشتت الذي تولده الحواس. ومن خلال هذه القصة البسيطة تجول الكاميرا في دروب الصين، لتتوقف مليا عند سور الصين العظيم، مهد الكونغ فو الحقيقي وأخلاقياته الرفيعة، والذي يختلف جذريا عن تقنية القتال المعتمدة في صالات التدريب الحديثة، والتي تكرس همجية القتل كوسيلة مثلى للبقاء. 

يفاجئ الصبي في أحد الأيام بمطرقة المعلم وهي تنهال بقسوة على السيارة المستقرة في صالة المنزل القديم، ليتلوها سرد لقصة أسرة صغيرة أودى بها عائلها في لحظة غضب وتشنج. فتتكرس ذكرى الحادث الأليم كجلد سنوي للذات ينصب على هيكل السيارة التي يقوم المعلم على إصلاحها بقية العام. فيتدخل الصبي وفق الطريقة الهوليودية ليرد للمعلم دينه، ويخرجه من أزمة الانغلاق داخل المأساة، حين يمنحه الحافز لمواصلة الحياة، من خلال التدريب.

يصل درى في مهرجان الكونغ فو إلى لحظة المواجهة الحاسمة مع خصمه، وينتصر عليه رغم ساقه المكسورة، ليثبت شجاعة البطل الأمريكي فوق الأراضي الصينية، فينحني اليافعون في لباسهم الأحمر، وكأنهم يمثلون ولاء الجيش الأحمر لقائدهم المنتصر. ولم ينس المخرج دعم هذه الفكرة مسبقا حين قدم المعلم لتلميذه سترة مقاتل الكونغ فو التقليدية البيضاء، التي ميزته عن منافسيه ذوي اللباس الأحمر الموحد، وبذلك خلف درى سلفه العجوز في فيلم غران تورينو. وتعكس التركيبة الدرامية في فتى الكاراتيه بعداً إنسانيا أوسع مما هي عليه في غران تورينو الذي حملته قسوة كلنت ايستوود صلابة وعنف عصر يشارف على الزوال.

أثناء إعادتي مشاهدة الفيلم الصيني كونفوشيوس ، وكنت قد شاهدته أول مرة حينما كُلفت بتغطية مسابقة الأفلام الطويلة لمهرجان دمشق السينمائي عام 2010، استوقفني مشهد يجسد غرق مخطوطات، أثناء عبور موكب تلامذة كونفوشيوس، بأسمالهم المهلهلة، بحيرة متجمدة. ليغطس يان هوي، التلميذ الأقرب لكونفوشيوس، وصاحب الملابس الرثة التي لم تكن تقييه حر الصيف ولا برد الشتاء، في الماء. فيشرع في إنقاذ مخطوطات معلمه وكأن حياته تتوقف على ذلك، بينما يواصل المعلم صراخه الأليم لمنعه من الإنقاذ الانتحاري لكتبه، حتى يحضرها كلها قبل أن يتوقف قلبه من البرد. ويجسد المشهد الذي يتمسك فيه المعلم بجثة تلميذه أحد أكثر مشاهد الفيلم تأثيرا؛ إذ يصور مزيجاً من العجز والقهر والألم الوحشي، يشحن فيه المعلم كل طاقته لاستعادة تلميذه من براثن الموت، قبل أن يقر بهزيمته أمامه.

وقد نقلت المشهد للإشارة إلى أهمية المريد في حياة المعلم، ودوره في منح ثنائية المعلم التلميذ قوتها كمسلك يعبر سُدم الضباب الكثيف المعتم لجمالية السلام الكلي. إذ كان يان هوي أول من انتظر المعلم على جانب الطريق ليشاركه رحلة الشقاء في المنفى، وليجتاز معه كل المسالك الوعرة والامتحانات العسيرة التي جعلت من كونفوشيوس المصلح الإنساني النبيل الذي ارتقى بمجالدته لنفسه ومجتمعه إلى مرتبة القديس. وباعتراف كونفوشيوس نفسه، عادل اجتهاد يان هوي الذي كان أول تلميذ لكونفوشيوس، القيمة الحقيقية للمعلم، والتي توطدت بالتحاق عدد كبير من التلاميذ بحلقته.