أسير الشّمس أم أسير الأيديولوجيا؟

ثقافة 2023/03/19
...

  بهاء بن نوار

   تأتي رواية «أسير الشمس: أيام أوجين دولاكروا في الجزائر» (ط1: 2022) للكاتب الجزائري حميد عبد القادر لترصد حدث زيارة المصوِّر الفرنسيّ: أوجين دولاكروا (Delacroix) إلى بلاد المغرب، والجزائر سنة 1832، وتقف طويلا عند تفاصيلها الغامضة، مستجلية شغفه العميقَ بالشمس، وتلهفه لرؤية عالم الشرق، ونسائه الفاتنات.

وتقع هذه الرواية في حجمٍ صغيرٍ لا يجاوز مئة وصفحة واحدة، تناوست بين مرور الكاتب على مقاطع منتقاةٍ من يوميّات دولاكروا واستحضاره بعض المعلومات التّاريخيّة عن مدينة الجزائر، ومعالمها في تلك الحقبة العصيبة، وبين سماحه لخياله السرديِّ بالتّغلغل فيما بين الأسطر، وملء بعض الثّغرات بافتراضاتٍ تشغل العصَبَ من أسئلة هذا العمل، وإشكالاته.

   يبدأ أول هذه الافتراضات بما ذهب إليه الكاتبُ من أنّ دولاكروا هو مَن “وضع يدَه في جيبه، وأخرج مصاريفَ السّفر” بعد أن رفض الملكُ الإنفاقَ عليه انتقاما من موقف أسرته المعادي للملكيَّة، مع أنَّ المصادرَ المختصّة تؤكّد أنَّ رحلته كانت بتمويلٍ من المؤسّسة الرسميَّة والعسكريَّة، لأنَّه كان حينها مفلِسا وعاجزا حتّى عن تدبّر مصاريف رحلةٍ قصيرةٍ إلى روما القريبة، فضلا عن أنّ الشّمال الأفريقيّ كلّه كان حينها مغلقا في وجه الزيارات المفردة، والسّفرُ إليه مكلفٌ جدّا، فلا يمكن وطءُ أرضه إلّا من خلال بعثةٍ رسميَّة، تباركها السّلطة السّياسيّة، ولعلّ الكاتب عمد إلى هذا الافتراض ليوحي بمدى تعطّش دولاكروا إلى بلاد الشّمس، واسترخاصه كلَّ غالٍ في سبيلها، وهو تحويرٌ ينسجم كثيرا مع ملامح هذه الشخصيَّة، وظلالها الواضحة في الرواية.  

ويأتي ثاني افتراضٍ لدى الحديث عن هويّة النّساء في اللوحة الشّهيرة: “نساء الجزائر في مخدعهنّ” 1834 إذ لم يتّفق الدّارسون حول هذا الإشكال، وتراوحت آراؤهم حول الاحتمالات الآتية:

- إنّ دولاكروا تمكّن من دخول قصر الدّاي، وأنَّهنّ نساءُ الدّاي نفسه، وهو رأي فاطمة المرنيسي في كتابها: «شهرزاد ترحل إلى الغرب» وواضحٌ جدّا أنَّه رأيٌ غير صائبٍ لأنَّ الدّاي حينها كان قد غادر الجزائرَ، واختار المنفى والاحتفاظ بثروته، وحريمه.

- إنّهنّ مجرّد بائعات هوى، وهو رأي الباحثة: “بركاهم فرحاتي في كتابها عن تاريخ البغاء في الجزائر خلال فترة الاحتلال، إذ ترى أنَّ “دولاكروا” زار أحدَ المواخير في حيّ القصبة، ولم تكن سيّدات الجزائر في لوحته سوى بعض بائعات الهوى. 

إنَّهنَّ نساء أحد العملاء الخونة، سمح لدولاكروا بالتلصُّص على حريمه، ابتغاءَ اقتناص بعض المصالح والامتيازات.

- إنَّهنَّ نساءُ رجلٍ شريفٍ، لم يمتهن نفسَه، ولم يبعْ ذمّتَه للغزاة، فوقع اختيارهم على حريمه لأجل إذلاله، وتأديبه.

- إنَّ دولاكروا لم يَرَ خلال أيّامه الثلاثة بالجزائر أيَّة نساءٍ، وأنّ مَن رسمهنّ لم يكنّ سوى نماذج مُنتحلةٍ، وبخاصّةٍ مع انتشار موضة تصوير الموديلات النسائيّة الشرقيّة حينها عبر صور النساء اليونانيّات واليهوديّات والخلاسيات وغيرهن من النساء اللواتي كانت تزدحم بهنّ شوارع القسطنطينيَّة، وباريس، وغيرها من المدن، وخير ما يثبت هذا لوحة “رينوار”(Renoir) «باريسيّات بثياب جزائريّة» (Parisiennes habillées en Algériennes) (1872) التي صوّر فيها ثلاث نساءٍ جالساتٍ على سجّادٍ شرقيٍّ، منشغلاتٍ بارتداء ثيابهنّ، وقد انتثرت أمامهنّ بعضُ الإكسسوارات والحلي الشرقيّة، و»دولاكروا» نفسه أشار باقتضابٍ في يوميّاته، بتاريخ: الثاني عشر فيفري إلى انهماكه في تصوير يهوديّةٍ تدعى»»ديتيتا»(Ditita) بثيابٍ جزائريَّةٍ، تعويضا عن ذلك التمنّع العنيد الذي لقيه من المسلمين، الرافضين فنَّ التصوير.  


وقد اختار الكاتبُ بين هذه الاحتمالات الخمسة ثالثَها لنيّةٍ مُسبَقةٍ منه في عقاب العميل جزاء خيانته، وتساهله مع الأعداء، وفي سبيل هذا سمح لخياله بافتراض أنّه رجلٌ ستِّينيٌّ، غادره الشّبابُ والعنفوانُ، ومع ذلك يحتفظ لنفسه بثلاث نساءٍ فاتناتٍ، لم يكتفِ المصوِّرُ برسمهنّ مرتدياتٍ أزياءهنّ الجزائريّة المميّزة، بل ينطلقُ قلمُ الكاتب مفترِضا أنّه أجبرهنّ على التجرُّد، لتنتهك عيناهُ وريشتُه حياءهنّ، وتقتحم أدقَّ تفاصيل

أجسادهنّ.

وواضحٌ جدّا ما رمى إليه الكاتبُ بهذا من تنكيلٍ بالمتواطئ، وإمعانٍ في إذلاله، والشّماتة فيه، وبخاصّةٍ حين تعرّض للضرب من الجنود الفرنسيّين، وحين وبّخته المرأة الأكبر سنّا بينهنّ: “خدوجة بن سلطان”: “لقد سلّمتَنا للكفرة بمحض إرادتك” غير أنّ هذا لم يحدث واقعيّا؛ فدولاكروا في لوحته هذه، وفي تلك التي تلتها سنة 1849 حافظ على احتشام النّساء، ولم يكن هاجسُه الإبداعيُّ سوى في إبراز اللّمسة الشرقيّة المحلِّية من خلال التركيز على تفاصيل الأزياء، والأفرشة، والأثاث، والإضاءة، التي تشغل عنصراً مفصليّاً من عناصر جماليّة هذه اللوحة، ولوحاتٍ أخرى كثيرةٍ له.

وإلى جانب هذا، عمد الكاتبُ إلى إضفاء تأويلٍ كولونياليٍّ ذاتيٍّ على اللّوحة؛ فالخزانة المفتوحة - حسب رأيه - تومئ إلى أنّ البلد كلّه مفتوحٌ أيضا ومستباح، عكس الباب المغلق الذي “يعني أن آلجي ليست مسموحةً، وغير مباحة، فكيف يُغلق البابُ ودخول البلد للجند وللمعمِّرين المتردّدين أضحى ممكنا؟”(ص: 92) أمّا النّعالُ الثلاثة الملقاة بإهمالٍ على الأرض، فلم توحِ إلا بأنَّ “كلّ شيءٍ مهجورٌ في هذا البلد: النّاس والأشياء، وما على الغزاة إلّا القيام باستعادة النّظام، وإزالة الحزن من على محيّا النّساء اللّواتي رسمهنّ”(ص: 98). 

وأرى أنّ هذيْن التّأويليْن غير مقنعيْن، ولا متناسبيْن مع خصوصيّة لوحات دولاكروا الشرقيّة، التي تخلو في عمومها من الشّوائب الإيديولوجيّة؛ فلا أرى أيّة علاقةٍ بين خزانةٍ تُفتح وبلدٍ يُنتهَك، ولا أجد أيّة صلةٍ بين لقطةٍ عفويّةٍ لنعالٍ أنثويّةٍ تتبعثر وفوضى تسكن الأرضَ، وتحتاج إلى المحتلِّ لينظِّمها! 

وإلى جانب هذا، يشير الكاتبُ في أكثر من موضعٍ إلى أنّ رسم هذه اللّوحة لم يكن إلّا بتواطؤ مشترَكٍ بين المصوِّر، والكونت دومورني المسؤول العسكريّ عن الرّحلة، باعتبار أنّها ستخدم مصالح فرنسا، وتوطِّد سلطتَها في المنطقة!

وليست غايتي أن أدافع عن دولاكروا أو ألتمس له العذرَ، غير أنّني أرى أنّ هذه الفكرة غير صائبةٍ أيضا، لأنّ تواريخ عرض كثيرٍ من لوحاته الشرقيّة تثبت حقّا أنّه لم ينجزها إلا بوحي من عاطفته وخياله، وبتأثير من رغبته الذاتيّة الخالصة فقط، فلم تكن أعماله فوريّةً، ولا كانت «تحت الطلب»، يشهد على هذا أنّ لوحة نساء الجزائر هذه مثلا لم تُعرَض إلا بعد سنتيْن من تاريخ رحلته، ولم تُعرَض نسختُها الثانية إلا بعد سبع عشرة سنة، وكذلك لوحة نزال الأسود التي عُرضت بعد ثماني عشرة سنة من الزيارة. وحتى لوحته عن ملك المغرب (Le Sultan du Maroc entouré de sa garde) التي كانت اللوحة السياسيّة الوحيدة التي استلهمها من ذلك البلد، لم تُعرَض إلا سنة 1845، أي بعد ثلاث عشرة سنة من تاريخ الزيارة، وليس بها أيّ ملمح إيديولوجيّ ظاهر، أو خفيّ.  

وعليه، أرى أنّ محاولة تلمّس بصمات كولونياليّةٍ في لوحات دولاكروا لن تفلح تماما لخلوِّها منها، بعكس يوميّاته التي امتلأت بها، وعجّت بنظرةٍ فوقيّة نحو الشرقيّين، ومقارناتٍ لا داعي لها، ولا تخلو من الغمز الخبيث، الذي كان بإمكان الكاتب أن يستفيد منه في تكوين ملامح دولاكروا، وعرض علاقته بهذه الأرض، التي ابتسم له الحظّ، وأذن له بزيارتها.

   وختاما، يمكن القولُ إنّه رغم أهميّة موضوع هذه الرواية وملامستها إشكالاتٍ تصبّ في صميم الاستشراق، والفنّ والرومانسيّة، والتاريخ المنسيِّ والمغيَّب لأرض الجزائر بُعيْد الاحتلال، فإنّ هذا الموضوع الإشكاليّ فيها لم يلقَ نصيبَه المستحَقَّ من التعمُّق والإفاضة؛ فبدت ملامحُ شخصيّة دولاكروا وظلالُها النّفسيّة الدّفينةُ باهتةً جدّا، فلم يغص قلمُ الكاتب كثيرا في أسرار تعطُّشه الشّمس، وولعه بنساء الشّرق، ولا قدّم لنا بعضا من محطّات حياته العاطفيّة، أو تصويره النّساءَ في عتمة المخدع المغلق، رغم عشقه المقارب الهوسَ لشمس الشّرق، بنورها، وحميميَّتها، وانكشافها.  لقد بدت هذه الروايةُ منساقةً وراء فكرةٍ مسبقةٍ، عبّر عنها الكاتبُ باستعجالٍ، وبمقاطع مجتزأةٍ من يوميّات الفنّان، ولئن جاز لنا اعتبارُ الرواية فنّا زمنيّا، تأليفها يشبه تأليفَ قطعةٍ موسيقيّةٍ، تتناغم فيه مكوِّناتٌ كثيرةٌ، وتتضافر أصواتٌ عديدة، فإنّ هذه الرواية أتت أحاديّة الرّؤية، مفردةَ النّغمة، لم يعلُ فيها سوى صوت واحد، هو: صوت الإدانة المسبقة، والإيديولوجيا

المعكوسة.