مخلوق زائد عن الحاجة!

الصفحة الاخيرة 2019/04/15
...

 جواد علي كسّار
كان من بين ما قرأتُ قبل سنوات في أحد مواسم القراءة المكثفة، كتاب «ذكريات عمر أكلته الحروف» لمؤلفه نجيب المانع. لم أعرف نجيب المانع (1926ـ 1991م) ولم أقرأ له قبل ذلك، إنما حثني على قراءة هذا الكتاب له الصديق عبد الجبار الرفاعي. آخذاً بوصيته لم اقتصر على المراجعة العابرة، إنما طالعت الكتاب بأكمله على نحوٍ ترتيبي من البداية حتى النهاية.
لأنني كنت في موسم قراءة مكثفة، فقد انكببت على الكتاب من فور أن قدّمه لي الرفاعي، وكنت عجولاً في المطالعة أريد أن أبلغ منه نهايته بأسرع وقت. ولم تكن الغاية أن أسجّل لنفسي إنجازاً بإضافة كتاب جديد إلى رصيدي المعرفي، كما كنت أحرص على ذلك في أوقات مبكرة من علاقتي مع الكتاب، تحديداً في المرحلة التي سبقت التفرّغ الكامل للكتابة الإعلامية والثقافية نهاية سنة 1980م، بل كان همّي أن اقتنص ما يروق لي من فوائد الكتاب.
بديهي لم يستهونِي الكتاب، لا لسوء في محتواه إنما العلة في ذائقتي، إذ قلما أتفاعل أو أسمح لنفسي الانفتاح على كتابات الأدباء والشعراء. ومع أن محتوى الكتاب هو تجربة إنسانية، وفي التجربة الإنسانية هناك الكثير النافع، لاسيّما إذا كان الكاتب منتبهاً لبواطن ذاته والذوات الإنسانية، يملك مهارة اقتناص اللمحات واللقطات والمواقف، له القدرة الوافية في التعبير، وشيء من الشجاعة في الكلام الصريح، كما اجتمعت هذه العناصر فعلاً، وغيرها من المزايا في هذه الذكريات. لكن المشكلة أن اهتمامات الكاتب حتى في ذكريات حياته لا تقع في اهتماماتي ولا أتذوقها، لذلك كنت أقرأ الكتاب كمن كُلف بامتحان في مادة درسية، معللاً نفسي بعسى ولعلّ أن أعثر على بعض ما أبحث عنه، وقد كان.
فالكتاب علاوة على ما يتحلى به أسلوب مؤلفه من تميّز، فيه لمحات غاية في العمق والجمال يصل بعضها حدّ الإبهار. وعلى عادتي وضعت علامات بقلم الرصاص وتعليقات خفيفة على هذه المواضع، من قبيل ملاحظته النقدية، عميقة الدلالة على سلوك بعض البغادة أو العراقيين، الذي يظنّ أن التحضر في بغداد، فيستعلي البغدادي على من سواه، ويسعى من سواه لتقليده ومحاكاته.
كما أعجبتني دعوته إلى تحرير العربي من طغيان نفسه وما يحيط به ذاته من انتفاخ وأوهام وأورام، وقوله: «أيها العرب ليظهر كلّ منا بالحجم الطبيعي، وسوف نصنع تاريخ الغد المشرق»، كما قوله الرائع: «فالفرد العربي المتضخم هو الاستعمار الجديد الرابض على صدر الأمة؛ هو أساس الطغيان».
ينتقل بعد ذلك لملاحظات عميقة عن واقع الأمية ليس بين عامة الناس، إنما بين المتعلمين أنفسهم، وكلامه عن نكد المؤلف العربي الذي يخسر الكرامة، وبعدها موارد الحد الأدنى من العيش إذا انصرف للتأليف وتفرّغ  للقراءة والكتابة، لأن: «الكاتب العربي مخلوق زائد عن الحاجة لا يحتاجه العرب»!