عبد الرحمن الربيعيّ القاصّ الأمهر

ثقافة 2023/03/26
...

 محمد صابر عبيد


يعتمد السرد في تشكيله أساساً على الصورة السردية وهي تتكون في حاضنة الحدث، وبحسب حاجة الحدث تتعدد أشكال الصور ووظائفها، وقد يستعين السرد في سياق آخر بالصوت السردي ليوظفه من أجل تفعيل طاقته داخل الحدث، وإذا ما عاينا المجموعة القصصية للقاص والروائيّ عبد الرحمن مجيد الربيعيّ الموسومة بـ “الشعارات تتبارى”، سنجد أن القصص تعمل من عتبة عنوانها على فعاليّة الصورة والصوت، فمفردة (الشعارات) ذات الصيغة الجمعيّة هي صورة وصوت في آن، صورة تعلق أو تسير بها الجموع كي تستقبلها العيون وتتفاعل معها، وصوت يتعالى من هتاف الأفواه وهي تعيد إنتاج الصورة على نحو جديد، ثمة تأثير بصري وتأثير سمعيّ في صوغ الشعارات من أجل التأثير في مجتمع التلقي وتوجيهه وجهة معيّنة، أما الفعل المضارع (تتبارى) فهو فعل بصري وصوتيّ أيضاً، ويتمتع بقدرة هائلة على الحركة التي تتوافر على زخم عال من الصراع يضاعف من طاقته الدلالية التعبيرية السيميائية.

     

تتجّه القصة الموسومة بـ “خطبة عصماء” إحدى قصص المجموعة صوب التشكيل الصوتيّ الواعد للسرد القصصيّ من ثريّا المتن، فالموصوف (خطبة) دالّ محمّل بالكلام/الصوت، ينطوي على شبكة كثيفة من الدلالات ذات المرجعية العميقة الممتدّة طويلاً في الميراث العربيّ النثريّ، وحين تتدخّل الصفة (عصماء) فإنّها تحيل الموصوف على نوع خاصّ من الخطبة ترتفع إلى درجة عالية من التماسك وقوّة التأثير والبيان، وهذا فرض قرائيّ أوّلي ضمن النسق الدلاليّ المستقلّ لعتبة العنوان مقطوعة عن متنها، غير أنّ المتن السرديّ للقصة هو الذي يوجّه دلالة الفضاء العنوانيّ مؤكداً الفرض القرائيّ الأوّل، أو مُعدِّلاً له، أو ناسخاً له، وهو ما سيتّضح في قراءتنا للمتن حيث نلاحق تجلّيات الصوت (الخطبة العصماء) في طبقات المتن وظلاله وجيوبه.

على الرغم من هيمنة العلامات الصوتية على عنوان المجموعة وعنوان القصة إلا أنّ الاستهلال السرديّ للقصة يبدأ بداية بصريّة:

“لم أرَ وجهه إذ كان المترو في ذروة اكتظاظه لكنني عثرت فيه على مقعد لي تركه فتى ذاهب إلى مدرسته وهو ينوء بحقيبة كتبه وكراريسه، كان مقعدي جوار الزجاج مما يسمح لي بالتطلّع إلى الشارع رغم أنّ كلّ ما فيه صار مألوفاً لي، ولكن هكذا أتشاغل وقد اكتشفت أنني لست الوحيد من يفعل هذا بل كلّ الذين يجلسون جوار الزجاج.” 

المشهد الاستهلاليّ كثيف جداً على مستوى حضور شخصية الراوي الذاتيّ والشخصيات الأخرى، وعلى مستوى تجسيد المكان وتصويره بكاميرا ذات عدسة ضاغطة، ولعلّ الجملة السردية الأولى (لم أرَ وجهه) تحيل فوراً على وجود شخصية أثارت انتباه شخصية الراوي عن طريق سماع الصوت من دون الصورة، ويشرع بعد ذلك مباشرة في رصد حركة المكان المتحرّك (المترو) الموصوف بـ (في ذروة اكتظاظه)، وتظهر على نحو عابر شخصية (فتى ذاهب إلى مدرسته وهو ينوء بحقيبة كتبه وكراريسه) برّر حضورها أنها تركت لشخصية الرواية المقعد كي يشغله، ومن ثمّ يتحوّل هذا المكان (المقعد) إلى وسيلة لانفتاح شاشة البصر على الما حول المتحرّك من نافذة المترو، من أجل رصد المسار المكانيّ بوصفه وسيلة من وسائل إشغال الذهن للتغلّب على زمن الوصول، مع أنّ الألفة لم تترك احتمالاً أو توقعاً لملاحظة شيء جديد. لكنّ رصد الخارج لم يمنع عدسة كاميرا الراوي الذاتيّ من التقاط حراك الداخل في عملية مداورة تصويرية تسعى إلى التغلّب على وقت الرحلة:

“كان ما يلفت النظر أعداد الناس المتكدسين في محطات المترو متحلّين بصبر ثقيل علّ مترواً يأتي وفيه متّسع لركوبهم.

وحتى من يفلح ويصمد فإنّه يظلّ متشبّثاً بالباب فمن الصعوبة عليه أن يشقّ طريقه وسط الأجساد المتراصّة كأكياس الإسمنت، وكان بعض الواقفين عن يميني يحنون أجسادهم وكأنّهم يظلّلون عليَّ من أجل أن يمسكوا بنافذة المترو حتى لا يسقطوا لأبسط اهتزاز..”.

يبدأ الرصد مكانياً في سياق الملاحظة التي تحيط بالمجموع (أعداد الناس المتكدسين في محطات المترو متحلّين بصبر ثقيل علّ مترواً يأتي وفيه متّسع لركوبهم.)، ثمّ يتحوّل الرصد إلى متابعة سلسلة أحداث يحاول الراوي الذاتيّ اختزالها إلى أعلى حدّ سرديّ ممكن ليرسم صورة الحالة، على نحو يُظهِر خصوصية المكان المتحرّك والطريقة التي لا بدّ من تنفيذها للتلاؤم مع هذه الخصوصية، في سياق تشكيل الحدث وتنوير بعض مفاصله. 

بعد أن ينتهي الراوي من تشكيل المشهد الاستهلاليّ بكلّ مستوياته ومفاصله وبأسلوب سرديّ احترافيّ، ينتقل مباشرة إلى منطقة الصوت ليحدِثَ التلاحم المطلوب المعلّق من عتبة العنونة، ويحوّل اتجاه عدسة الكاميرا نحو مصدر الصوت الموصوف بـ (خطبة عصماء) كي تنتقل من فضائها التنكيريّ إلى فضاء التعريف والتدليل والتصوير:

“سمعت صوته الثقيل المثخن بالتبغ والتعب وهو يملأ عربة المترو ملقياً خطبة لا أحد يفهم ماذا وراءها، كان صوته يلعلع وكأنّه في تظاهرة من هذه التظاهرات التي تملأ شارع بورقيبة بهذه المناسبة أو تلك وكانت كلها تتوجّه لوزارة الداخلية رغم أن الدنيا انقلبت ولم تعد هذه الوزارة رمزاً لنظام مضى، ومع هذا تظلّ المبتغى وكأنّ الخوف القديم مازال يسكن الصدور من هذا المبنى الصامت الذي لم يستهدف الثائرون غيره صبيحة ذلك اليوم المشهود 14 يناير..”. أُذُنُ المصوّرِ هي التي تعمل سمعيّاً هنا (سمعتُ) وتظلّ العدسة تبحث عن الصورة بلا جدوى، وهي تجسّد الصوت وتكبّره على نحو مركّز (صوته الثقيل المثخن بالتبغ والتعب)، ثمّ المساحة التي يعمل فيها ويؤثّر ويلفت الانتباه (وهو يملأ عربة المترو ملقياً خطبة لا أحد يفهم ماذا وراءها، كان صوته يلعلع)، ويلتقط الراوي المكانَ الرمزيَّ للاستبداد (وزارة الداخلية) حيث كانت تتوجّه خطبة الرجل نحوه (كانت كلها تتوجّه لوزارة الداخلية رغم أن الدنيا انقلبت ولم تعد هذه الوزارة رمزاً لنظام مضى)، بمعنى أنّ خطابه لا معنى له أصلاً. في لقطة تنويرية خاصّة ينسحب الراوي الذاتيّ إلى داخله في نوع من الحوار الذاتيّ العميق من أجل أن يجد حلاً مقنعاً لما يحصل، وهو يتساءل عن كنه هذا الرجل وهو يلقي خطبته العصماء في مكان غير مناسب تماماً:

“تساءلت في سرّي:

ـ من هذا الرجل؟ وماذا يريد؟ نحن في مترو يمضي كلّ واحد إلى مقصده، لسنا في تظاهرة ولا اعتصام يتجمّع فيه الناس لملء فراغهم حتى قبل أن يسأل البعض منهم لماذا؟ وحول المعتصمين يتجمّع المارّة بفضول وهم يسألون: (اشثمت؟) ولا يأتيهم الجواب لذا ينسحبون”. المحاورة الذاتية للراوي تمرّر نقداً لاذعاً لفكرة التظاهرة وقد تحوّلت إلى ممارسة غير مجدية لملء الفراغ، إذ هي في الأصل (اعتصام يتجمّع فيه الناس لملء فراغهم)، تعكس ممارسة مجانية بلا هوية واضحة (حتى قبل أن يسأل البعض منهم لماذا؟)، لذا لا تحظى بالأهمية المطلوبة ولا تحقق أهدافاً مرجوّة (يتجمّع المارّة بفضول وهم يسألون: (إشثمت؟) ولا يأتيهم الجواب لذا ينسحبون.)، على نحو تكون فيه مجرد تسلية، فكيف برجل يسعى إلى تحويلها من مكانها الطبيعي في ساحة أو مكان تجمّع للناس إلى المترو؟.

يتعالى الصوت من جديد، ويسمح الراوي الذاتيّ هذه المرّة للصوت أن يظهر على شاشة السرد كي يوجز أطروحته بلهجة التهديد:

“هدّد صوت الرجل:

ـ الشعب التونسيّ يعرف كلّ شيء. لا أحد يضحك عليه، الشعب التونسيّ ذكي يعرف أعداءه واحداً واحداً، ويوم محاسبتهم قريب، شعبنا واعٍ لا يغلبه أحد!”

لكنّ الصوت ما يلبث أن يضيع في متاهة الصمت حيث يتوقّع الراوي نهاية لصوت الرجل بهبوطه في المحطة قبل أن يكمل الخطاب:

“ثم جاء الصمت بعد أن توقّف المترو في محطة “باب العسل” وتوقعت أن الرجل قد هبط في هذه المحطة قبل أن يكمل خطابه اللوذعي”.

وبهذا الصمت الذي أعقب الصوت المهدِّد تنتهي الخطبة العصماء، فيتحوّل مجرى السرد القصصيّ من الاحتفاء بالصوت السرديّ وهو يهيمن على مقدّرات السرد إلى صورة حكائية تقليدية تتفاعل فيها شخصيات القصة، وكأنّ الصوت كان يهددها جميعاً ويقضّ مضاجعها ويصادر خلواتها داخل مكان متحرّك لا يصلح للفوضى:

“توجه إليّ الرجل الجالس أمامي، سألني:

ـ هل فهمت شيئاً؟

وعرفت أنه يعني خطبة الرجل فأجبته وأنا أنقر بأصابعي على زجاج النافذة:

ـ أبداً.

وتمتم بكلمات لم أسمعها أو أنه برم شفتيه فقط ثم أغمض عينيه وكأنه يواصل إغفاءته، وعندما هبطا معاً في محطة الجمهورية حث خطواته ليواصل المشي بجانبي وقال لي وكأنه يواصل معي الحديث:

ـ تدور أمامنا أشياء لم نعد نفهمها ولعل المرء يسأل نفسه من أين أتانا كلّ هذا الهيجان؟

ولم أجبه لسبب بسيط هو أنني مثله لم أعد أفهم شيئاً ولا أسال أحداً: إلى أين؟ وماذا بعد؟”

المشهد الاختتاميّ في القصة هو مشهد سرديّ مكثّف يتصدّر فيه الحكي والحوار حساسية الصورة السردية، في إعلان واضح عن غياب الصوت (أو تغييبه)، وقد تعمّد الراوي الذاتيّ محو الصورة الممكنة المرافقة له إمعاناً في فصل الصوت عن الصورة لتسفيه الصوت والسخرية منه، وتبسيط فكرته إلى أبعد حدّ ممكن داخل جوهرية المعنى القصصيّ، ولا شكّ في أنّ فضاء الاستفهام هو الذي يطغى على مشهد الاختتام (ـ هل فهمت شيئاً؟/ من أين أتانا كلّ هذا الهيجان؟/ ولا أسال أحداً: إلى أين؟ وماذا بعد؟)، حتى يتحوّل السؤال إلى مساحة تصوّر سردية لاحقة تشتغل ما بعد بلوغ السرد القصصيّ مرحلة توقّف الحكي.

الصوت السرديّ هو المحتوى الأصل لفضاء التشكيل في القصة، وهو صوت يتجلّى على نحو مهيمن في احتلال المكان وإشغاله، غير أنّه بلا صورة في إشارة إلى تكرار حضور هذا الصوت نفسه في أمكنة كثيرة مع تغيّر الوجوه، فمثل هذه الخطب العصماء تنتشر في المحيط من دون وظيفة، ثمة رغبة في الكلام والصراخ تعبيراً عن الضيق والحصار والجوع، وهو ما حاولت القصة تشكيله في سياق سرد قصصيّ شفّاف وكثيف وعلاميّ، يشتغل فيه الراوي الذاتيّ على تحقيق أعلى قدر ممكن من التلاؤم بين عناصر الفضاء السرديّ، الزمن والمكان والرؤية، حين تتداخل على هذا النحو الاحترافيّ الذي تظهر فيه جليّاً الصناعة والخبرة والمهارة.