هل سقطت إمبراطوريتهم حقاً؟

ثقافة 2023/03/30
...

  ترجمة: حيّان الغربيّ


يتأمل رايان جينجيراس من خلال كتابه التاريخي الصادر مؤخراً في 368 صفحة تحت عنوان: “الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية: 1918 - 1922” الأحداث التي شهدتها حقبة سقوط العثمانيين. يكشف لنا التاريخ أن ما يربو على ستة قرون من الحكم العثماني لم تنتهِ بانفجار هائل على غرار ما حدث في إمبراطوريات أخرى وإنما كتبت نهايتها إثر حالة من التذمر والشكوى على الرغم من الجلبة والنشاط اللذين سادا خلال السنوات التي سبقت الانهيار المزعوم. 


سقط النظام القديم في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1922 على يد الجمعية الوطنية التركية الكبرى التي تشكّل قوامها من القوى الوطنية المنتصرة في الحرب مع اليونان، تلك الحرب التي أفضت إلى تنحية الشعور السائد لدى الأتراك بالمذلّة والخزي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وإثر سقوط النظام، سرعان ما تم إبعاد آخر السلاطين إلى منفاه في إيطاليا على متن سفينةٍ حربيةٍ بريطانية.   

وفي حين أنَّ المؤلف رايان جينجيراس هو مؤرّخ أمريكي غزير الإنتاج ومتخصص بتاريخ السلطنة العثمانية والتاريخ التركي على وجه العموم، فهو قد بادر إلى إحياء الذكرى المئويَّة لهذه الأحداث من خلال إصدار كتابه المحفّز الذي يقدّم فيه تفاصيل مسهبة وشيّقة يتعقّب من خلالها تطوّر الأمور وصولاً إلى خروج آخر السلاطين محمد السادس (المكنّى بخليفة المسلمين أيضاً) إلى منفاه. يبسط المؤلّف السياق الأشمل أمام القارئ، بما في ذلك انحسار الدول الثيوقراطية القديمة لتحلّ محلّها الديمقراطيات الكولونيالية في القارة الأوروبية، والتي اشتهرت بتطبيق الليبرالية على نطاقٍ واسعٍ في بلدانها مع الجنوح نحو الإمبريالية والعنف المفرط في الخارج كما أنّها عُرفت بالانتظام استناداً إلى الولاء للسيادة القوميَّة التي كان نفوذها يتجاوز الناحية الرمزيَّة. تصاعدت الأمور إلى صراعٍ عالمي انخرط فيه القياصرة الروس وآل هابسبورغ والسلاطين، ويبدي المؤلّف إعجابه بالطريقة التي تتكيّف من خلالها الكيانات الجيوسياسيَّة العظمى مع مستجدات الأمور. فعلى الرغم من أنَّه يركّز على تركيا، بيد أنَّه لا يتوانى أيضاً عن وصف الأنظمة الأخرى التي بدّلت شكلها على غرار القادة السوفييت الذين تبنّوا السياسة الخارجيّة للإمبراطوريّة الروسيّة على الرغم من أنهم اعتلوا سدّة الحكم على أنقاض آخر السلالات الإمبراطورية في البلاد.

وفي ضوء النجاح الذي يفضي إليه التكيّف عادةً، فإنَّ تركيا الجديدة لطالما عُدت أنموذجاً للنجاح على الرغم من الاضطهاد والترويع الذي كابده مسيحيو الأناضول إبان تلك الحقبة. ومن جوهر الإمبراطورية الآيلة إلى السقوط، اجترح مؤسسو الجمهوريّة نظام حكمٍ حديثاً إلى حدٍّ ما مع إرساء دستورٍ علماني وحقوقٍ والتزاماتٍ عامة (من الناحية النظريّة على الأقل) وديمقراطية تقوم على التعدديّة الحزبيّة وإن تخللتها بعض الانقطاعات. 

علاوةً على ذلك، شمل التحوّل السياسة الخارجيّة أيضاً، فتحوّلت الدولة من دولةٍ عسكريّةٍ لطالما شكّلت القارة الأوراسية مسرحاً لأنشطتها التوسّعيّة إلى دولةٍ تركّز جلَّ جهودها على التلاحم الداخلي متفاديةً المغامرات الخارجيّة في أغلب الأحوال. ولعلَّ هذا هو الحال الذي استمرَّ حتى العقد الماضي على أقل تقدير، أي قبل أن يشرع الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان، في استغلال الحنين إلى السلطنة العثمانيّة لتحويله إلى أسلوب في الحكم ومحفّزٍ على استعراض القدرات العسكريّة.

يتمحور هذا الكتاب حول فكرةٍ مفادها أنَّ سقوط الإمبراطورية العثمانية لم ينجم عن حالة التأخر التي كانت تعيشها أو عن الهزيمة التي منيت بها في الحرب العالميّة، كما أنَّ التغيير لم يأتِ كنتيجةٍ حتميّةٍ للعامل الرئيس في هذا السياق، ألا وهو الاحتلال اليوناني (المدعوم دوليّاً) لميناء أزمير متعدد الجنسيات وما تبعه من توغّل طلائع القوات اليونانية في الأناضول. فعلى الرغم من أن مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال الذي عُرف لاحقاً بـ: “أتاتورك”، قد استمدَّ نفوذاً هائلاً من دحره للقوات اليونانية الغازية، بيد أن هذا لم يفضِ تلقائيّاً إلى التخلّص من النظام العثماني من دون رجعة، إذ بَقِيَ مؤيدوه يقاومون التغيير وفقاً لما يذهب إليه المؤلّف في كتابه هذا.

وغالباً ما راجت النقاشات والحجج بشأن حتميّة التطورات التاريخيّة أو حول تحديد أسبابها على وجه الدقة، ولكن التاريخ قد حدث وانتهى الأمر والمهم حقاً في هذا الصدد هو أنَّ الإمبراطورية قد تداعت بالفعل.

ولكن هل هذا صحيح؟ هل سقطت فعلاً؟ يرى عدد من المؤرخين أن الإمبراطورية حافظت على استمراريتها من خلال إصلاح كيانها وتحديث ذاتها بالانتخابات الحرة وتعزيز حقوق غير المسلمين، بينما يذهب عددٌ آخر إلى أن ثمة نوعاً معاكساً من تداخل الجوانب المناوئة لليبرالية في تركيا المعاصرة، بما في ذلك النفوذ الذي يتمتع به الجيش وسيطرة الدولة على الشؤون الدينيَّة.

ومن جانبه، استغلَّ الرئيس التركي، أردوغان، الحنين إلى الإمبراطورية بشتى السبل الممكنة، بما في ذلك عرض مسلسلٍ تلفزيوني يتناول نشأة الإمبراطورية والحروب التي خاضها العثمانيون في القرون الوسطى، الأمر الذي لا يقتصر على لعب دور الموسيقا التعبيريّة فحسب على حدّ زعم المؤلّف (وهو أستاذ مادة الأمن الداخلي في المدرسة البحريّة الأمريكية للدراسات العليا). إذ يرى جينجيراس أيضاً أن حرباً جديدةً بين تركيا واليونان ليست أمراً محتمل الوقوع وحسب وإنما هي أمرٌ مرجّحٌ أيضاً في ظل تهديدات أردوغان بمهاجمة الجزر اليونانية.

وفي نهاية المطاف، لعلّ أردوغان يتأرجح وسط النزاع القائم بين نفوذين متصارعين، فمن جهةٍ هناك قوة الناتو بتأثيرها الكابح ومن جهةٍ ثانية يبرز سعي روسيا إلى بذر الشقاق في صفوف خصومها. وعلى هذا الصعيد، يبدو أن الماضي حين يرد في حولياتٍ حسنة التنظيم يمنحنا من جعبته روائزَ مساعدة على التفكير السليم ولكن من دون ضمان إجاباتٍ واضحة بلا أدنى ريب، فالتاريخ لمّا يغلق أبوابه

بعد.