أمل البكري: أسرتي لها الفضل في عطاء علمي وأدبي

منصة 2023/04/02
...

  عماد الطيب 

 مما لا شك فيه أن الكتابة عمل إبداعي يتطلب مهارات فكرية وعقليّة استثنائيّة وطقوساً خاصة لدى الأدباء والمفكرين.. ونتذكر منهم في سالف القول.. كانت لي تجربة في ثمانينات القرن العشرين مع أحد الزملاء، حين زرنا وقتها الشاعر الكبير رشدي العامل -رحمه الله- في منزله.. استقبلنا في غرفة نومه التي هي ملاذه الفكري تعثرنا بكتبه وأوراقه المبعثرة والمتناثرة هنا وهناك على أرضية الغرفة.. ومحاولة منا لتنظيم تلك الفوضى.. قال لنا اتركوها هذه الفوضى هي دليلي لشحذ ذاكرتي للكتابة.

وغرائب الطقوس لأدبائنا وشعرائنا متنوعة، وبعضها غريب فما كان يقوم به الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، أنه كان يسير مسافات طويلة في الصباح الباكر استعدادا للكتابة. 

ويروى عن الشاعر محمد مهدي الجواهري أنه كان يغني المقامات العراقية القديمة قبل كتابة الشعر. 

فيما كان الشاعر السوري نزار قباني يسرف في تأنقه، ويستخدم العطر، ثم يستلقي على الأرض وأمامه عدد كبير من الأوراق الملونة، ربما كي يحفز الجانب العاطفي عنده قبل أن يخط قصيدته. 

وليس بأغرب ما يقوم به الكاتب المسرحي ألبير كامو فكان لا يكتب إلا واقفا أمام شرفة مفتوحة، وغيرهم منهم الكثير. 

هكذا هم المبدعون في الأرض في كل زمان ومكان لهم تفاصيلهم الخاصة في حياتهم تختلف عن الآخرين من الناس العاديين.. ومن هنا كانت تنطلق الكلمة الجميلة والقصة الرائعة. والرواية المفعمة بالتفاصيل.

في ظل هذا السياق ولكوني صحفيا أبحث عن مبدعين عراقيين لهم طقوسهم الخاصة في الكتابة.. كيف يكتبون، بل كيف يعيشون وسط الكتابة.. ما هي مفردات إبداعهم المكاني والزماني داخل بيوتهم.. من هنا كانت نقطة انطلاقي لبيوت عدد من مبدعينا للوقوف على اماكن إبداعهم ومنجزهم الأدبي والفكري.. والتي تعد واحات للإبداع التي يختبئ فيها هؤلاء المبدعون.

وتعد أمل البكري.. وهي كاتبة وشاعرة ولها أيضا موهبة في الرسم إحدى مبدعات العراق في هذا الزمن، لها نتاجات أدبية وفكرية ومؤلفات وأبحاث قيمة.. وهي أستاذة جامعية.. التقيت بها في كلية الآداب بجامعة الكوفة.. وعرفتها بنفسي وغايتي من زيارتها..  رحبت بالفكرة.. وفي عصر يوم بارد ركنت سيارتي أمام احدى الدور وترجلت منها ثم ضغطت على جرس البيت.. ولم تكن ثواني قليلة حتى خرج رجل يبدو أنه زوج الدكتورة أمل وابتسامة تعلو وجهه يتسم بالوقار 

والهيبة. 

قام بحفاوة أهل الريف من كلمات ترحيبية بالزيارة.. دخلت الدار أول مواجهة لموضوعي وجدت مقدار الكم من الأصص وما يسمى بالعراقي سنادين النباتات من كل نوع. ادخلني الرجل الكريم لغرفة الاستقبال.. كانت غرفة مستطيلة ذات أثاث بسيط بألوان هادئة ينم عن ذوق رفيع ومكتبة كبيرة عامرة بالكتب.. دخلت الدكتورة بتحية مرحبة بزيارتي.. وبعد الضيافة دعتني إلى مكان عملها واستأذنت زوجها لاستكشف المكان.. ادخلتني غرفة عبارة عن خزنة من الكتب.. مكتبات خشبية من الصنع القديم الفاخر تضم على رفوفها مئات الكتب من كل نوع واختصاص.. وكتب موزعة هنا وهناك على الارائك والكراسي.. تجد الرواية ودواوين الشعر، وكتب متنوعة لكتاب عراقيين وعرب وأجانب.. قالت "هذا حصاد السنين". 

في المكان نفسه، وتحديداً في الجانب المقابل للمكتبة وضع مكانها الخاص بالكتابة. 

وهو عبارة عن مكتب من الخشب محملا بكتب ورسائل واطاريح ورزم من الأوراق. 

وما لفت انتباهي أن خلف المكتب بدل الكرسي اريكة.. اوضحت هي فكرة اختيارها لأن الجهد الكبير والوقت الطويل في الكتابة يحتم آخذ استراحة، وقد تكون غفوة قصيرة بين الفينة والفينة على الاريكة لدقائق، ومن ثم تعود بعدها للكتابة. 

ولكن لاحظت وجود تمثال من الخزف الصيني لطير الشاهين صنع بطريقة فنية احترافية. 


* ما قصة هذه التميمة التي تذكرني ببومة غادة السمان؟  

- إن الطير يعبر عن حالة الانعتاق والتحرر من الجسد نحو حرية الروح والفكر.. وهذا رأي كثير من الفلاسفة.. أما اختياري لطير الشاهين.. فهو لأنَّ هذا الطائر يحمل صفات الجمال والشموخ أبيَّ النفس فلا يأكل من الجيف.. وهو أسرع كائن على وجه الأرض. لهذا أعده تميمة.. أتأمل فيه قبل 

الكتابة.. 


* هل لك طقوس أخرى؟ 

- في بعض الأحيان أرغب في الكتابة على السرير. وخاصة المقالات الأدبية أو قصة أو قصيدة. 


* تذكرت حالتها هذه بالكاتبة أحلام مستغانمي التي كانت لا تكتب إلا على السرير. وانجزت أغلب رواياتها من على سريرها. 

ثم أكملت حديثها.. وإذا كانت تشغلني فكرة ما تجدني أتجول داخل البيت وغرفه. ولكن لا اتحدث مع أحد في تلك اللحظات.. وسألتها عن أفضل الاوقات للكتابة؟

أجابت: الصباح الباكر، وفي المساء، حين ينام أفراد الأسرة ويحل الهدوء في المنزل. 

ولا أتناول شيئاً من الطعام خلال مدة الكتابة سوى قهوة بقدح خزفي خاص بي. 


* لك الكثير من الأبحاث؟

لقد وجدت كتابا لك عن الإعلام؟

- تبسمت وكأنني ذكرتها بالماضي.. وأجابت: كنت أتمنى أن أصبح إعلامية، ولكني قبلت في الكلية باختصاص آخر.. ولحبي للإعلام كانت شهادة الماجستير عن تاريخ الاعلام عند العرب.. ولدي ثلاثة كتب أحدهم بالإعلام كما ذكرته، وكتاب عن حياة السيد المسيح من خلال الاناجيل الأربعة، وهو دراسة تاريخية تحليلية، فضلاً عن كتاب بحثت فيه عن الوجود المسيحي في الحيرة. 

وعشرات من الابحاث التاريخية..  كما كتبت قصائد وقصصاً ومقالات أدبية عديدة نشرت في صحف ومواقع الكترونية.

* كم من الوقت تقضيه في الكتابة والقراءة؟ 

- قد لا تصدق أنه في بعض الأيام ابدأ من الساعة الخامسة فجراً وحتى العاشرة ليلا بفترات متقطعة وقصيرة.. 


* ولكن هذا جهد كبير؟  

- تعودت عليه وكان على حساب صحتي.. لأن حبي لعملي جعلني أتحمل آلام الجسد.. وأكدت أن أسباب نجاحي وعطائي العلمي والادبي يعود لأسرتي التي وفرت لي البيئة الملائمة. وكان لزوجي الفضل الكبير في رعاية أعمالي العلمية والفكرية على جميع 

الاصعدة.  


* رأيك بالمشهد الثقافي الخاص بالمرأة في العراق؟  

- تعمه الفوضى ويعاني من اختلال في التوازن، ولا تستطيع من تمييز المبدع الحقيقي من المزيف الذي يدعي الادب. 


* بمن تأثرت من الاديبات العراقيات بكتاباتها؟ 

- هناك اديبات في تاريخ العراق لهن بصمتهن الكبيرة مثل القاصة والروائية لطفية الدليمي والشاعرة نازل الملائكة والشاعرة لميعة عباس عمارة..  

في الختام لفت نظري مقدار الاضاءة المحيطة بمكتبها.. اوصلتني للباب الخارجي.. قلت مع نفسي هكذا هو حال المبدعات العراقيات يستثمرن عملهن وهن داخل بيوتهن، بعضهن زوجات ومنهن امهات ولهن واجبات أسرية من أجل أن يكون لمنجزهن الابداعي صفحة في تاريخ العراق.. ولكي يقول عنهن التاريخ الشيء الكثير. وهذه هي حقيقة المرأة حين تعشق عملها وتتوفر لها البيئة الملائمة. 

إنهن يصنعن الابداع.