ازدياد الحنين إلى يوغوسلافيا
جيسيكا باتيمان
ترجمة: بهاء سلمان
في بلغراد قبل بضعة أسابيع داخل، توقف عدد من الحافلات خارج متحف يوغوسلافيا وغادرت المكان، وهو مبنى ضخم ومهيب، يعود لمنتصف القرن الماضي في العاصمة الصربية.. ظهر للعيان أفراد بنسق ثابت، يحمل البعض منهم ورودا، ويلوّح القليل منهم بالعلم القديم للبلاد؛ فقد قدموا لزيارة الضريح الذي يضم قبر "جوزيب بروز تيتو"، مؤسس دولة يوغوسلافيا الاشتراكية. العديد من الزوار كانوا قد نشؤوا تحت ظل النظام القديم، وقد أتوا للاحتفاء بعيد ميلاد الزعيم الراحل، وكان ذلك اليوم يمثل عطلة عامة، لها أهميتها في البلاد قبل تفكك جمهوية يوغوسلافيا. كان بعض الحاضرين من المنتمين إلى الأحزاب اليسارية المتطرّفة، يرتدون قمصانا غريبة الألوان ويحملون البيارق. غير أنه كان هناك أيضا بعض الشباب، فعلى امتداد خطوات خارج معرض خاص يقف بعضهم للتحديق، بصور تتحدث عن سنوات حكم تيتو من خلال الملصقات والأعمال الفنية والمصنوعات اليدوية والذكريات المسجلة "لعامة الشعب". التقيت مع "ميلوس توميسيج"، 18 سنة، مرتديا قبّعة وربطة رأس تعود لما يعرف بحركة "الرواد"، وهي الحركة الشبابية الاشتراكية اليوغوسلافية.
تعدد القوميات
وحينما سألته عن سبب قدومه إلى المتحف، رد قائلا: "أردت أن أرى صورة لذلك الزمان. لقد كان زمنا عظيما، فالكل كان يحب بعضه بعضا." وعندما سألته إن كان يعتبر نفسه يوغوسلافيا أم صربيا؟، كان رده: "يوغوسلافيا"، بلا تردد، وأضاف: "والدتي صربية، ووالدي من مونتينغرو، أما جدتي فهي كرواتية. واقعا، عائلتي أتت من جميع أرجاء يوغوسلافيا".
كانت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية تتكوّن من ست جمهوريات متفاوتة الحجم، هي: صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك وسلوفينيا ومونتنغيرو ومقدونيا، إضافة إلى منطقتين تتمتعان بالحكم الذاتي، وهما كوسوفو وفويفودينا، أسسها تيتو في العام 1945. وكان هدف دولة تيتو هو توحيد مجاميع الاثنيات والأديان المختلفة تحت شعار "الوحدة والأخاء". لكن تأجج المشاعر القومية والعرقية بعد وفاة الزعيم في نيسان 1980 أدى إلى تفكك البلاد سنة 1992، ووقوع الحروب الدموية اليوغوسلافية خلال تسعينيات القرن الماضي.
كانت الرواية الشائعة خلال تلك السنوات هو أن تيتو، ولمدة قاربت على نصف قرن، قد أرغم القوميات والشعوب المتعددة على العيش سوية بالضد من إرادتها. بيد أنه بعد مضي ثلاثين سنة، لا يزال الكثيرون يحملون عاطفة عميقة تجاه الدولة التي لم تعد موجودة، ويأسفون على زوالها. ففي صربيا، أشار 81 بالمئة من السكان إلى اعتقادهم بأن الانقسام مثل أمرا سيئا لدولتهم. وفي البوسنة، التي كانت، على الدوام، تمثل الجمهورية الأكثر تعددية ثقافية، شاطر 77 بالمئة من الناس تلك المشاعر. حتى في سلوفينيا، والتي كانت أول دولة من يوغوسلافيا السابقة تنضم إلى الاتحاد الاوروبي، وتعد بشكل واسع الأكثر "نجاحا"، فلا يزال 45 بالمئة من شعبها يرى أن حالة التفكك قد أضرّت بالجميع. وعلى نحو يثير الدهشة، كانت نسبة المتأسفين على تفكك يوغوسلافيا في كوسوفو، والتي لم تحصل على حالة الاستقلال التام من يوغوسلافيا، عشرة بالمئة فقط.
تحذير الخبراء
غالبا ما يشار إلى حالة الإعتزاز بالنظام القديم بأنه "الحنين إلى يوغوسلافيا". ومع ذلك، تشير "لاريسا كورتوفيتش"، المتخصصة بالانثروبولوجيا السياسية من مدينة سراييفو، والتي تعكف على دراسة الشخصية لما بعد مرحلة يوغوسلافيا داخل البوسنة، تشير إلى حذرها من هذا التعبير، وتقول: "يوحي الحنين إلى الماضي نوعا من الحزن الشديد أو الاشتياق". بطبيعة الحال، هذا الأمر موجود، مع الكثير من المطاعم ودور الضيافة المنتشرة في المنطقة، مثل "مقهى تيتو" الشهير في سراييفو، مزيّنا بالتذكارات المثيرة للعاطفة، وعارضا لمنظر يزهو بالألوان يرمز لذلك العصر. غير أن لاريسا تشير أيضا إلى وجود حركة لشباب صغار من الذين ينظرون إلى المرحلة في وصف أكثر نقدا، مقيّمين ايجابيته وسلبياته.
"هناك كم هائل من التقدير للمرحلة الاشتراكية، وهي مرتبطة بالنمو الاقتصادي والتطوّرات الواسعة في مستويات المعيشة،" تقول لاريسا، مضيفة أن "الوعود الفاشلة" للمشروع اليوغوسلافي صار أمرا باهتا، حينما تقارن بما تلاها من تأجيج للمشاعر القومية وأعمال العنف. وشهدت غالبية الدول المنفصلة عن الاتحاد اليوغوسلافي انحدارا اقتصاديا هائلا منذ فترة الحروب، وما زالت تعاني مستويات مرتفعة من هجرة العقول.
على وجه الخصوص، ابتليت كل من البوسنة وصربيا بصراع سياسي، وصارت مناطقها السكنية وخطوط سككها الحديدية الرائعة، والمبنية خلال العهد اليوغوسلافي، بالية. ورغم أن كرواتيا وسلوفينيا وجدتا نوعا من الاستقرار النسبي، لكونهما انضمتا إلى الاتحاد الاوروبي، إلا أن طلبات الدول الأخرى بقيت مؤجلة، وأخفقت المفاوضات بتحقيق تلك الطموحات، تاركة الكثيرين تساورهم الشكوك من امكانية الانضمام إلى الكتلة الأوروبية.
المستقبل.. والماضي!
وبالمقابل من هذه الخلفية، يتساءل البعض إن كان الماضي بامكانه أن يحمل أية حلول للمستقبل. وتنوّه لاريسا بحركات حقوق العمال التي انبثقت في البوسنة خلال العقد الأخير، مرتكزة على النموذج اليوغوسلافي الاشتراكي القديم، وبتنظيم ذاتي للعمال، وتضيف: "كان هذا النظام ملائما للغاية بالنسبة ليوغوسلافيا،" شارحة اختلافه عن الطراز الستاليني المالك للصناعة في البلاد.
ورغم ان يوغوسلافيا كانت دولة الحزب الواحد، فقد كانت هناك اختلافات بارزة عن دول الستار الحديدي الأخرى، فقد أسس تيتو حركة عدم الانحياز، وحافظ على علاقات متوازنة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، وكان بامكان المواطن اليوغوسلافي السفر إلى دول كلتا الكتلتين. وذكر لي العديد من الناس الذين إلتقيتهم عند قبر تيتو كيف كان جواز السفر اليوغوسلافي القديم قويا، وأنهم حاليا بحاجة إلى الحصول على تأشيرات دخول كي يسافروا إلى أغلب الدول.
موضوع شائع آخر تراه لاريسا هو فقدان المكانة، والتصوّر الذي جرى على الناس من عيشهم ضمن دولة كبيرة نسبيا ولها احترامها العالي إلى دول صغيرة أقل أهمية وهيبة. ولد "جورج بيرالوك" سنة 1989 في مقدونيا، وتقع منطقته حاليا عند حدود شمال مقدونيا، بيد أنه يقيم حاليا في بانكوك. يقول بيرالوك: "متى ما كان علي فعل أمر تتخلّله الضوابط والتعليمات، مثل فتح حساب مصرفي هنا، لا يتمكّن الموظفون مطلقا من ايجاد شمال مقدونيا في أنظمتهم، لكنهم يستطيعون ايجاد يوغوسلافيا".
يواصل بيرالوك حديثه قائلا: "لو سألتني هل ما زال بامكاننا الاستفادة من حالة الإتحاد، حتى لو لم تكن إسمها يوغوسلافيا؟.. سأقول نعم، لأننا ضئيلون جدا وليست لدينا مكانة كبيرة بمفردنا." ويعتقد بيرالوك أن هذه المشاعر شائعة بين الأشخاص الذين بعمره، والذين لم يعيشوا مطلقا بشكل واقعي تحت ظل النظام القديم.. "كل ما نملك من بنى تحتية هي من تلك المرحلة، وهي الآن تعاني من حالة
تداعي".
التصدي للقومية
كما تظهر أيضا في الوقت الحالي حركات تعيد تفحّص الإرث القديم للمنطقة في ما يخص مناهضة الفاشية ومناهضة القومية، والتي خففت الحروب وطأتها أو أنها سعت إلى محوها. وتشكّلت فرق من المنشدين تغني أغاني مرتبطة بالمرحلة الماضية، في كل من مجتمعات البلقان والشتات.
في فيينا، هناك فرقة اسمها 29 تشرين الثاني، سمّيت تيّمنا بتأريخ اعلان الجمهورية الشعبية الاتحادية ليوغوسلافيا سنة 1945، وتتألف من أفراد ينتمون إلى مختلف الدول اليوغوسلافية السابقة. كان هدف الفرقة الأساسي تحدي القومية التي تصاعدت في مجتمعات المهاجرين خلال وبعد الحروب، فأندية العمال اليوغسلاف، التي كان الناس يلتقون فيها لاحتساء القهوة وتبادل الاحاديث ولعب الشطرنج، أصبحت منفصلة إلى وحدات صغيرة وفقا للمجاميع العرقية.
ويرتدي أفراد الفرقة المعاطف حمراء وزرقاء اللون موشحة بالنجوم، في إشارة إلى العلم اليوغوسلافي، لكنهم يتجنّبون الأغاني المرتبطة بالحزب الشيوعي، أو تلك التي تمجّد تيتو. تقول "جانا دوليسكي"، قائدة الفرقة، والتي هي بالأصل من كرواتيا، وانتقلت للعيش في فيينا منذ سنة 2013: "كان ذلك قرارا مقصودا، لأننا ندرك تنامي حركة تمجيد لتلك المرحلة، وهو أمر يثير المشاكل. علاوة على ذلك، لم يكن لديهم حق أية أغاني جيّدة المستوى،" قالتها مبتسمة.
بدلا من ذلك، يختار أفراد الفرقة بعناية ألحانا يعتقدون بامكانية تطبيقها على الصراعات السياسية القائمة حاليا، مثل إرتفاع حمى القومية والشعبوية. تقول جانا: "نحن نحاول الابتعاد عن التحريفات التاريخية. بإمكان الواحد منا الدخول إلى هذه الاحتفالات بالماضي، حيث نقول دوما أنه كان أفضل، لكن بلا تأمّل لما تعنيه كلمة "أفضل" بشكل واقعي".
اكتشاف المجهول
ساعدت الفرقة بعض الأعضاء على استكشاف مرحلة حساسة من التاريخ. "ماركو ماركوفيتش"، الذي ولد في بلغراد، لكنه نشأ في فيينا، يقول إن عائلته كانت ترفض مناقشة الحروب معه حينما كان طفلا. "كان الأمر غاية في التعقيد بالنسبة لطفل في السابعة من عمره كي يفهم ما يجري، أو هكذا كانوا يظنون. بالتالي، كان هناك شعور يساورني على الدوام من أن تأريخ المنطقة التي
أتيت عبارة عن موضوع محرّم، وعندما وجدت فرقة الأغاني، شعرت بأنني استطيع أخيرا من ردم بعض الحفر".
كما يوفر الانترنت بوابة للناس لإعادة اكتشاف الجوانب التي تم التغاضي عنها في إرثهم، حيث تفصّل بعض المواقع المعروفة على الانستغرام أحوال الأثاث وفن البناء والتصاميم الصورية لتلك المرحلة. واطلق "بيتر كورتشانك"، الذي نشأ في تشيكوسلوفاكيا، تدوينا صوتيا في العام 2020 تحت اسم "لنتذكر يوغوسلافيا"، ويقول: "مع نشأتي في الحياة، بدت يوغوسلافيا وكأنها الفردوس بالنسبة لي"، موضحا أن العديد من الناس الفارين من تشيكوسلوفاكيا كانوا يهربون إلى يوغوسلافيا. وكان المعارضون من دول شيوعية أخرى، مثل رومانيا حينما كان تشاويشيسكو يحكمها، غالبا ما يفعلون الأمر ذاته.
يقول كورتشانك: "لقد شاهدنا التفكك العنيف ليوغوسلافيا في الوقت الذي شهدت فيه التفكك السلمي لبلادي. بدأت أبحث عن المقارنات، مقارنة بين الحالتين، لتتشكل عندي حالة من الافتتان بها." ويشير كورتشانك إلى صدمته من الدفق العاطفي الذي يتلقاه من بعض المستمعين، ويضيف: "أفضل تعليق سمعته عن يوغوسلافيا أنها كانت عبارة عن خدمة عامة. الكثير من الناس يقولون "لمدة طويلة، كنا نشعر بالخجل حتى من التفكير بكلمة يوغوسلافيا".
تغيّر الأزمان
وأشار البعض بأنها كانت وكأنها تمثل علاجا. ويجد كورتشانك وجود حالة إعتزاز بالنظام السابق تهز اليوغوسلافيين السابقين. "من الممكن أن تسمع أشخاصا كبار السن في سلوفاكيا يقولون "أوه"، كانت الأسعار أرخص آنذاك، لكن على الأغلب الكل انتقل منها. غير إن الأمر في يوغوسلافيا السابقة كان يمثل نوعا من التحوّل نحو شيء آخر".
مع هذا، فإن البعض كانوا أكثر انتقادا لما يرونه كونه يمثل مبالغة خيالية لتلك المرحلة. إذ تنتمي عائلة "ارنيلا ايزيرتش" إلى البوسنة، وكانت قد هربت إلى الولايات المتحدة، حيث نشأت هناك خلال فترة الحرب. تقول ارنيلا: "كان انطباعي كطفلة إن يوغوسلافيا كانت تمثل الزمن الأروع، وكل شيء كان متناغما. لكني عندما كبرت، أدركت وجود أمور تخص البلاد لا تعجبني." وتذكر عدم وجود حقوق للشاذين جنسيا وقمع المعارضين السياسيين. ومع ذلك، تقول أنها لا تزال تستطيع تعريف هويتها مع "روح يوغوسلافيا. "عندما أسافر إلى أجزاء أخرى من المنطقة، مثل مونتينغرو أو كرواتيا، أشعر وكأنني أتواصل مع الناس، فبمقدوري التكلم بلغتهم، كما لدينا ثقافة متشابهة".
ومع مرور الوقت وقلة تأثر الشباب الأصغر عمرا بشكل مباشر بصدمات الحرب، يشعر البعض بأن الأمر بات أكثر سهولة لتحليل تلك المرحلة. تقول جانا دولسكي، قائدة فرقة فيينا: "في كل يوم تقريبا، يسألنا احدهم إن كان بالإمكان إجراء مقابلة معنا لاطروحاتهم حول هوية مرحلة ما بعد يوغوسلافيا. زميلها في الفرقة ماركوفيتش يوافقها الرأي، ويقول: "كان الأمر لفترة طويلة يمثل موضوعا محظورا، لكن هذا الجيل يملك رفاهية الإبتعاد بما فيه الكفاية عن نبذ جميع هذه التحيّزات، والصدمة التي رافقتها. وأنا أعتقد أن هذا الحال سيتعاظم".
صحيفة الغارديان البريطانية
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة