القيم التربويَّة والجماليَّة لمسرحيات الأطفال

ثقافة 2023/04/02
...

 د. سعد عزيز عبد الصاحب

يعد أدب الأطفال المسرحي والدرامي من أهم الشواغل الأدبيَّة التي شغلت أوروبا وامريكا وروسيا واليابان خلال القرنين المنصرمين واسهمت في تطورها وتقدمها الحضاري، وخصصت لها هذه الأمم مساحات واسعة من مطبوعاتها واصداراتها وتراجمها وعروضها المسرحية، إذ إن الاهتمام بالنشء وتشكله ذهنيا وعاطفيا يسهم اسهامة كبرى في بناء أجيال سوية مقبلة على التعلم والحياة، ووظف العقل الغربي تقنيات الاقتباس والاعداد والتوليف والبنى التحويلية من السرد إلى الدراما في ضوء ترجمة آثار وتراث الأمم الأخرى.

وأمتنا العربية الاسلامية لم تكن بعيدة عن الاهتمام الغربي، وخصوصا في مضان السرد والحكاية الشعبية والبطل الشعبي من منظور استشراقي فترجم الانجليزي (لين) سرديَّة (ألف ليلة وليلة) إلى اللغة الانجليزية وترجمها (غالان) إلى الفرنسية، وكذلك ترجمت حكايات (كليلة ودمنة) إلى أكثر من لغة أثرت هذه السرديات تأثيراً بالغاً في أدبيات المؤلف الغربي الموجهة للطفل وأسهمت في تأطير أسلوبي لأشكال العجائبي والغرائبي والسحري والمدهش داخل انساق هذه 

المسرحيات. 

واليوم يطالعنا المترجم كاظم سعد الدين بترجمة جديدة لمسرحيات من مصدرها الانجليزي وجذرها المتأثر بالحكايات العربية والشرقية، إذ مثلت هذه المسرحيات التي انتقاها (سعد الدين) من عيون أدب الطفل الغربي والياباني اضافة مهمة لمكتبة الطفل العراقي والعربي، فضلاً عن انفتاحه الجديد على مسرح النو الياباني والذي لا نعرف عنه سوى النزر اليسير والهامشي من ترجمات سابقة لمترجمين عرب، وذلك باستعراض اشكاله وتقنياته المسرحية من خلال ترجمته لأعمال ومقولات (زيامي موتوكيو) الذي يعد الشخصية الرئيسة في بناء وتطوير مسرح النو الياباني واكتشافه لجماليات السكون والصمت في أداءات ممثل النو الياباني، مسرح النو الذي اِتّكأ عليه المسرحي الالماني الشهير (برتولد بريشت، 1898 ـ 1956) في تطوير بنى مسرحه الملحمي واكتشاف اثر التغريب والفرق في الاداء التمثيلي ما بين التقديمي والتقمصي والتجريد والاسلبة في الشكل المسرحي، فضلاً عن سعة القيم التربوية والجمالية التي اشتملت عليها هذه المسرحيات المترجمة عن أدب الطفل الغربي بثيمات تدعو إلى اشاعة الحب والسلام والعمل المثمر الدؤوب من أجل الإنسانية وتحرر الإنسان من اغلال العبودية والثورة على الطغيان والظلم، كما في مسرحيات (وليم تل) لمؤلفها (شريدان) و(الراعي) لـ (ايفلين سميث) و(الحصان والايل والصياد) لـ (ايسوب)، والمسرحية الأخيرة تدعو لعدم الاتكال على الغير في اداء الواجب الشخصي والطمأنينة للآخر الغريب من دون معرفة نواياه، ومسرحية (القاضي العادل) لـ (م . ادنكوت) المستقاة من حكاية عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) فحواها في أن الولد للأم التي ربَّت لا للتي ولدت أو اكتشاف القاضي للأم الحقيقيَّة في ضوء العاطفة الفطرية الكامنة لدى المرأة، هذه الثيمة التي وظفها (برتولد بريشت) فيما بعد في مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية)، والدعوة إلى التواضع وعدم التكبر والغرور والنرجسية في ثيمة اخلاقية وانسانية رائعة في المسرحية الشهيرة (سندريلا) لـ (م.ادنكوت)، ويلمع المترجم كاظم سعد الدين في ترجمته المتصرفة للقصيدة الطويلة المعنونة (المزمار السحري) لـ (روبرت براوننك) ومسرحية (زمار هيملين) لـ (كاثرين لورد) التي تدعو للوفاء بالوعد وصدق الأمانة من قبل الدولة لمواطنيها من خلال حكاية الجرذان التي تضرب المدينة وتعيث فيها خرابا ولا يستطيع العمدة ولا مجلس المدينة أن يجد لها حلا إلا في مزمار العازف الجوال الذي يذهب بعزفه لإغراق الجرذان في نهر المدينة الكبير، ينكل العمدة بالوعد الذي ضربه للعازف في أن يعطيه هدية مجزية مكافأة لقضائه على الجرذان، لكنه لا يعطيه أي شيء ويطرده من المدينة.

يضمر العازف الجوال العداوة للعمدة فيستعمل مزماره الغجري لاقامة كرنفال جماعي لأطفال المدينة يقودهم فيه وهم يرقصون إلى سفح الجبل ليفتح لهم العازف بابا سحرية يخطف بها الأطفال عقابا للعمدة وأهالي المدينة، فيعم الحزن والبكاء أمهات الأطفال ولكن الموسيقى لا تؤذي أحدا والعزف البريء لا يوالي الشر، إذ يعمل العازف في داخل الكهف على تعليم أطفال المدينة الموسيقى والعزف على المزمار، لكي ينتصروا في المستقبل على الجرذان.

وفي الدراما الذهنية القصيرة المعنونة (نصف تفاحة) لـ (جي بي ثورنلي) نتعرف في هذه المسرحية على كيفية أعمال العقل والذهن في تصريف أمورنا الحياتية، بحيث لا ينجرف الفرد إلى النزاع والخلاف في التعاطي مع المأزق الحياتي والمشكلات والعلل الاجتماعية (فلا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) فيتدخل من لا يريد لنا الخير والسلام فيأتي على التفاحة 

بكاملها. 

وفي مسرحية الدمى المائزة (رابونزل) تأليف (رودرا كرينسيلد) نقرأ (شعرية) اللغة وترجمتها الشفيفة بفواعل (الواقعية الخيالية) لمؤلفة شابة استطاعت ان تشغلنا بشعريتها الأدبية ومواقفها الدرامية وشخصياتها الكاريكاتورية خصوصا شخصية الساحرة، فرابونزل تلك الفتاة الجميلة المختطفة تنزل شعرها الطويل سُلَّماً من البرج المأسورة فيه كي تصعد عليه الساحرة والامير وفي استعارة اوديبية واضحة تستعير المؤلفة عمى أوديب الملك في عمى الامير المحب الذي يشفى من جراء قبلات رابونزل في عينيه، وينفتح المترجم سعد الدين على النسق الفكري والجمالي لمسرح النو الياباني في ضوء المسرحيات التي اختارها ليترجمها من انطولوجيا الأدب الياباني وفلكلوره الباذخ الجمال، وهي حقيقة ليست فقط مسرحيات لمسرح الطفل أو موجهة للصغار إنما لمسرح الكبار ايضا فالنوع التراجيدي والنزعات الصوفيّة والتجريديّة والرمزيّة ماثلة في ثيماتها وشخوصها وحبكاتها نجدها ماثلة في مسرحيات (سوتابا كوماجي) و(طيور الاسى) و (انسوموري) و (الطبل 

الحرير). 

أخيراً ربما تطرّف المترجم كاظم سعد الدين في تراجمه بعيداً عن الترجمة الحرفيّة أحيانا بمشرطه الخاص ومداخلاته الشخصيّة وخزينه المعرفي والجمالي باستنطاق النصوص على غير ما كانت عليه، ولا نظن أن هذا يدخل في باب (الخيانة) الأدبيّة قدر تعبيره عن حرصه في تنوير قارئه واستلهامه لوسيطه اللغوي بأقصى درجات الشعرية والدراية، وما مبادرة دار المأمون للنشر في طباعة مسرحيات المترجم كاظم سعد الدين، ما هي إلا وقفة وفاء وإكبار لمجهودات مترجمنا طوال السنوات التي قضاها مسهماً أساسياً في حركة الترجمة والنشر إلى العربية إسهاماً منه في تدعيم المعرفي والثقافي وحركة النهوض في عراقنا الجديد.