انحطاط النقد الأدبي

ثقافة 2023/04/02
...

  ريتشارد بوسنر                                                  

  ترجمة د. فارس عزيز المدرس

كتب رونان ماكدونالد: على الرغم مِن كثرةِ الكتابات الأكاديمية والصحفية بشأن الأدب؛ إلا أن العنايةَ بغائية «النقد الأدبي» قليلة.النوع من الكتابة إذا لم يكن ميتاً؛ فهو قيد الاحتضار.  ويأسف ماكدونالد لانحدار النقد الأدبي، ويسعى لشرح أسبابه؛ ويرى أننا ليس لدينا نظرية أدبية متينة في ما بعد الحداثة؛ خلا حيوان له لون مختلف تماماً عن النقد الأدبي، أي مجرد نصوص يتمّ تفسيرها وتحليلها بهدف الكشف عن الأعراف والمواقف الاجتماعية المشفرة فيها، ولا يجري تقييمها على أنها إبداعات متكاملة ومكتفية ذاتياً.

  يرى العديدُ من نقادِ الأدب أنّ النشاطَ الاجتماعي هو الهدفُ الرئيس للنقد الأدبي، والأشخاص الذين يكتبون عن الأدب يكتبون الآن نثراً مليئاً بلغةٍ عاليةٍ؛ غيرِ قابلة للاختراق، مِمّا يشكِّل حاجزاً بين النظرية الأدبية والنقد الأدبي.

  ويعود التراجع في قراءةِ الأدب إلى العديد من الأسباب، لكن قد يكون أحدها هو الأسلوب الظلامي والمسيّس في تدريس الأدب الذي أصبح رائجاً في العديد من الجامعات. ومعظم معلمي الأدب ليسوا ما بعد حداثيين حتى؛ مع أنهم يدّعون ذلك. 

واسمحوا لي أنْ أوضحَ أكثر. 

هناك أسبابٌ لانحسار الطابع المهني للدراسات الأدبيَّة، لكن أهمها تراجعُ الإبداع الأدبي نفسه؛ لمدةِ نصف قرن مضى أو أكثر، وهناك قمم في الإبداع الفني وهناك حضيض. وشكّل الربع الأول من القرن العشرين ذروةً مذهلة في الابداعِ الأدبي، إذ ولّد نقداً أدبياً مثيراً، إلا أنّ هذه الذروةَ في ما يخص النقدّ كانت جزئية؛ لأنّ الكثيرَ مِن هذه الأدبياتِ الحداثيّة كانت صعبةٌ؛ وتتطلّب تفسيراً متخصصاً. فهل هذا السببُ مبالغ فيه؟

  إنَّ الكثيرَ من الأدبيات التي صمَدت - بغض النظر عن الحقبة التي تمّ تأليفُها فيها - محيِّرة تماماً، ولكن نحن الآن في ركود مِن الإبداع الأدبي، وربما حصل هذا الركودُ أيضاً بسبب ظهور وسائل الإعلام المنافسة للتعبير الأصيل، ومن ثم فهناك عمل أقلُّ إثارة للنقاد الأدبيين.

  لا يعني ذلك أنّه لا يوجد نقادٌ جيدون، لكنهم ليسوا ثواراً أدبيين - بحسب مفهوم توماس كون، ولا تزال هناك حاجة لمعلّمي اللغة والأدب في الكليات والجامعات يمارسون نقداً أصيلاً، بدل أنّ تتحوّل كتاباتهم مِن النقد إلى الشكل الأكثر ملاءمة للمنح الدراسية الأكاديمية التي تتضمن الكتابة لبعضهم البعض فحسبُ.

يؤدي الانخفاضُ الناتج في النقد الأدبي إلى تأخير آفاق الإبداع الأدبي عن طريق تقليل جمهور الأدب الجاد، لذلك يوجد للأسف حلقةٌ مفرغة، على الرغم مِن أنه من المشكوك فيه أنَّ النقد الأدبي كان في أي وقت من الأوقات دافعاً للإبداع الأدبي. 

كلّ ما قلتُه حتى الآن مجرد مقدمة. إنها الإجابة المؤقتة للغاية التي سيعطيها سؤال ماكدونالد عن أسباب تراجع النقد الأدبي. لكن ماكدونالد لا يعطي إجابةً مختلفة، ولديه مفهومٌ مختلفٌ للنقد الأدبي، واسمحوا لي أنْ أبدأ تحليلي لكتابه.

  بالنسبة لماكدونالد فإنّ جوهرَ النقد الأدبي تقييمي، وسمةُ التقييم هي الأساسُ الذي بنى عليه كتابَه. ولأنّ النقد تقييمي فهو مكروه، كما يوضح في بعض اقتباساته، فالنقادُ عاجزون عن الإبداع؛ لكنهم بارعون في إصدار الأحكام، فهم مثل الخصيان في عالم الحريم؛ يعرفون كيف تتم المواقعة، لكنهم غيرُ قادرين على القيام بذلك بأنفسهم. لكنْ هل صحيح أنَّ الحكمَ النقدي قاتلُ الابداع؛ أو كما يقول صموئيل بيكيت: النقد الأدبي هو «استئصالُ رحم الإبداع بالمجرفة»؟

  لقد سخر نورثروب فراي مِن النقد التقييمي باعتباره ينتمي إلى تاريخ الذوق؛ وليس إلى النقد الأدبي. وهذا على الحقيقة تطرفٌ وإعمام؛ فليس النقد الأدبي كله سلبياً، والناقدُ في أصلِ الكلمة مرتبط بـ «المعايير». وعلى هذا فالناقد الأدبي هو قاضٍ أولاً. لكنه حين يتجاوز مصداقية القضاء يتحوّل إلى عنصر سلبي أو مرائي. 

يقدّم ماكدونالد أمثلةً على النقد الأدبي الذي روّج لعمل كاتب مثل إدموند ويلسون. وبغض النظر عن أمثلته فإن التجارة تسلسلٌ هرمي تقييمي لنقاد الأدب؛ ولكن كما رأينا للتوّ هم ينخفضون في سُلّم التقديس في مهنة الكتابة عندما ينتقدون أعمالهم. وعليه فمِن غير المرجح أنْ تكون أحكامهم موضوعيَّة.

يرى ليفز وأتباعُه أنّ «الصفاتِ الأخلاقيَّة المؤكدة للحياة وللفن» هي بمثابة حصنٍ ضد الحداثة التكنولوجية، ومع ذلك لم يتمكّن الادباءُ مِن مقاومةِ الضغط الذي تمارسه الأوساط الأكاديمية على الأكاديميين للسعي مِن أجل الصرامة الفكريَّة: أو دعوات صريحة للسلطة العلمية لتبرير الممارسات النقديَّة الأدبيَّة، مع الاحتفاظ في الوقت نفسِه بالثقافةِ كبديل تعويضي للعلم، وهذا من شأنه أنْ يولّد توتراً يمكن أنْ يتأرجح بسهولة في تناقض صريح. 

وتحليل ماكدونالد يقوم على تصوره للنقد الأدبي على أنه تقييمي. ولأن معظم المقيِّمين ليسوا كتّاباً مبدعين لذلك يكره الكتابُ المبدعون عجزَ النقادِ عن تجاوز معتقداتهم السياسية أو الدينية في نقدهم؛ مع أنهم في الوقت نفسه يتظاهرون بالصرامة والموضوعية. 

  أمّا نهجُ النقاد الأكاديميين المؤثّرين فهو نفسُه لدى الأغلبية منهم؛ إذ هم يكتبون فقط للأكاديميين الآخرين، وكان الأحرى بهم أنْ يكتبوا للطلاب الجادين وجمهور القراءة، ويحاولوا جعل الأدب أكثر سهولة وإثارة للاهتمام للقرّاء. لكن الحالَ قد تغير. وهكذا فقد النقد الأدبي حضوره بفقدان ذلك النقد الذي كان يساعد الناس على فهم الأدب الجاد والتمتع به، وهذا ما أدى إلى اختفاء حكّام الذوق والأدب.

أمّا عن العنصر الترويجي فمن وجهة نظر ماكدونالد قد صار النقاد غير حياديين، وأحكامهم هي التي تروّج لنصوصٍ أدبية معينة على أنها إبداعية، وأخرى أدنى مرتبة، من خلال الأحكام التي تطلق من دون موضوعية. وكما قال بنديتو كروتشه (النقد الذي ينصبُ نفسه قاضيَ تحقيقٍ يقتل الموتى، أو يتنفس في وجه ما هو حي). وهنا أودّ أنْ أسأل ما إذا كان النقادُ مسؤولين عن إثبات عظمة دانتي أو شكسبير أو مايكل أنجلو مثلاً، أمْ على العكس من ذلك.

  مشكلة النقد المنصّبِ نفسَه قاضياً لم تحلّها وجهةُ نظر ماكدونالد، ولكن ماكدونالد لا يعترف بهذا؛ وذلك لأنه لا توجد معايير موضوعية للتمييز الجمالي. بل لا يوجد شيء مشترك تمام الاشتراك بين جميع الأعمال الأدبية العظيمة، لكن الأعمال الأدبية الأقل قد تشترك مع الأعمال التي قيل عنها عظيمة في مناحٍ كثيرة؛ ومع ذلك يجري الإقلال من أهميتها.

وعندما يقترح النقادُ معاييرَ يعتقدون أنها ستميّز بين العظيم وغير العظيم غالبا ما ينتهي بهم المطاف إلى تضييق نطاق الأدب بطرق عشوائية، كما حاول تي إس إليوت مع ميلتون وشيلّي.

ليست هناك حاجة لتطوير اختبار اتجاه أقراص زهرة الشمس للأدب العظيم، ويمكن للنقاد أنْ يشيروا إلى سمات الأعمال الأدبية التي يحبونها أو التي لا تعجبهم؛ من دون ممارسة سلطتهم بإخبار الناس بما يجب عليهم قراءته. وكان كروس على حق حين قال: لسنا بحاجة إلى نقاد تقييميين مِن أجل الحصول على «قانون» للأدب العظيم.

ليعلمَ النقادُ أنَّ كلَّ قانون يتطور على الطريقة الداروينية، ويتنافس الكتّاب، وتزدهر الأعمال التي تتكيف بشكل أفضل مع البيئة الثقافية. وهنا أخشى أنْ يكون ماكدونالد قد استسلم للكليشه القائلة بأن عدو عدوي صديقي: فحشد الدراسات الثقافية ضد النقد التقييمي، لذا نحن نؤيد ماكدونالد بشرط أنْ يكون موضوعياً؛ لكنه لا يُظهر كيف يمكن أنْ يكون النقد الأدبي موضوعياً. 

إنّ المشكلةَ لا تكمن في أنّ النقدَ الأدبي المعاصر ليس تقييميّاً، والأهم أنَّ النقد الأدبي الذي يهدف إلى زيادة عدد قرّاء الأدب العظيم قد حلَّت محلّه النظرية الأدبية من ناحية، والمنح الأدبية لعلماء الأدب من ناحية أخرى؛ من دون النظر في قيمة نجاحها لدى القرّاء.

  في مجلة NewYorker نُشر مقال رائع من لدن صحفي يشجع على إعادة قراءة شعر ميلتون، وذلك لتجاوز تأثير أساتذة الكليات بالنظرية الأدبية الحديثة والتخلص من الأدب العظيم وإطعام جمهورهم الأسير بنظام غذائي مِن كتابات نظرية قاتمة وغامضة، وهذا بلا شكّ عامل في تدهور الثقافة الأدبية. فهل قصديّة النقد التقييمي الحالية ليست كذلك!

إذا كانت هناك نظرية أدبية أقل ضجيجاً ولم يكن هناك نقدٌ تقييمي غير موضوعي، لكان هناك نقدٌ أدبيٌّ أكثرُ قابليةٍ للقراءة وإثراء لفاعلية القرّاء مع الأدب. ومعنى هذا أنَّ النقاد التقييمين على النمط الذي ذكرناهم هم مَن يقتلون النقد الأدبي، وهم مَن يتراقصون على جثة الأدب.