حلقة الوصل بين الحداثة والأخلاق

ثقافة 2023/04/03
...

 عادل الصويري


النظرة الملتبسة للماضي، بين من يراه مقدساً، لا يجوز المساس به، والاقتراب من عروشه، ومن يدعو لاندثاره، ودفنه في مقابر بلا ذاكرة. هذا الالتباس في الرؤية إلى الماضي؛ وفَّر مناخاً مثاليَّاً لوجود حداثة عدائيّة، تتغلغل بشعارات التجديد، والانفتاح، لكنه انفتاحٌ قائمٌ على بتر الصلات، وقطع الجسور مع التراث.

لذلك قرأنا في كتابات بعض المفكرين الذين أعربوا عن قلقهم من تغلغل عدائية الحداثة، عن ضرورة مسك العصا من الوسط، وكأنَّهم يُلَمِّحون إلى وسطيَّة الحداثة التي تجعل العالم أكثر مرونة في التعاطي مع الآخر، وأقل عدائيَّة تجاه المشاريع الفكريَّة والتنمويَّة الناضجة، وذلك من خلال تهيئة متعددة الاتجاهات أهمها الثقافة بشقيها الفردي والجماعي.

ونقطة الحداثة الوسطيَّة هي بمثابة الشحنات الكهربائية (الأفكار) المنتشرة في الأسلاك (العقول) بتدفق من دون توقف، شريطة متانة هذه الأسلاك وعدم قابليتها للتلف (الفساد). والارتكاز على ما يضمن عدم انفلات المشروع، وانحرافه عن أهدافه التي ينشدها. 

ولعل قضية فصل الأخلاق باعتبارها من القديم التقليدي هي إحدى السقطات الكبيرة للحداثيين العدائيين، حين تمت برمجة الانفصال الكلي عن الأخلاق عبر مبادئ ارتكزت على أن يعتمد الإنسان على نفسه في كل الأمور، إذ تتركز في ذهنيته القلقة والمضطربة مقولة أن الدنيا هي خلاصة حقيقة الإنسان وسر وجوده، لذلك لا بدَّ عليه أن يجتهد في التقدم من أجل الدنيا، لا من أجل ما يعتقدون أنها خرافات، وبذلك تتم الخطوة الثانية من فصله عن أخلاقه وفطرته، وكل ذلك طبعاً يتم بواسطة إيهام سلطة العقل التي يجب أن تكون هي الحاكمة الفعليَّة.

لذلك لا بدَّ من وجود حلقة وصل بين الحداثة والأخلاق، وأن يكون لنا وعي تام بفكرة الوصل بين المفهومين، فبين نمط بطيء تعوّدت عليه أجيال قديمة، ونمط متسارع بشكل هائل يحكم مزاج الأجيال الحالية؛ يحضر البون الشاسع في طريقة التفكير، الأمر الذي يجعل الحاجة للتغيير ضروريَّة.

والتغيير هنا لا يعني أن ننسف النمط الفكري القديم والانحياز للجديد أو العكس؛ بل يُفترض إيجاد مقاربة بين الأنماط التفكيرية تعتمد على صيغة للتفاهم تجعل القبول بالآخر مركزاً لهذه المقاربة، إذ يمكن للقدماء أن يستوعبوا التطور والتسارع في النمط الجديد، مثلما يمكن للأجيال الحالية الاستفادة من الأنماط القديمة والانطلاق منها لإحداث التغييرات المطلوبة التي تتلاءم مع متطلبات ما يعيشون فيه من عصر يتطور باستمرار. الحاجة للتغيير، وإن كانت تبدأ من الأفكار كأساس، لكنها على الصعيد الواقعي تحتاج إلى تطبيقات عملية، فليس من المنطقي والشعوب تشهد هذا الانفتاح العلمي والاتصالي، أن تُحكم وفق أمزجة قديمة غير آبهة بما يجري حولها معتمدة على عناصر السلطة التي تأخذ شكل القمع ومصادرة الآراء. فعملية قيادة الشعوب في مثل هذه الظروف المتغيرة شبيهة بطريقة التدريس التي يحاضر فيها رجل في العقد السابع من عمره وفق منهجية أكل عليها الدهر وشرب أمام طلبة لم يتجاوزوا العشرين من العمر.

الحل إذاً هو في تجديد الآليّات التي نقدم بها المناهج في الفكر والثقافة والاقتصاد وعلم الاجتماع وغيرها من المعارف التي تعنى بالعلوم الإنسانيّة. وتجديد الآليّات؛ يلزم أولاً مقدمات أساسية تهيّئ لإحداث فعل التغيير. وكل ذلك سيؤدي بأصحاب الحداثة العدائية إلى اختيار طريق من اثنين: إما إعادة النظر في مناهجهم الملتبسة، أو الانتحار الفكري الذي انتهت إليه نظريات وأفكار ملتبسة سابقة. 

وبطبيعة الحال؛ لا يمكن عزل الفكر عن أية مناسبة للحديث عن الإصلاح والتغيير؛ لأن أكثر التصدعات التي تواجهها البشريَّة، ما هي إلا نتاج صراع الأفكار فيما بينها، وكل فكرة تحاول إثبات تفوقها وفاعليتها على الفكرة المقابلة.

ولما كان صراع الأفكار محتدماً، فمن الطبيعي أن تكون النخب الفكريَّة هي المغذي الرئيس الذي من شأنه إدامة زخم الصراع الذي سيمتد إلى ما شاء الله من زمن. وقد تباين مستوى التأثير النخبوي على المجتمع بحسب الظروف المرحليَّة التي تفرض واقعها الذي ينعكس حتماً على المزاج الفكري العام، والذي قد يتعرض لهزات وانكسارات تحدث تشظياً وانقساماً في صفوف المفكرين، بحيث يعيشون في عزلة انهزاميَّة تلقي بظلالها على الواقع المجتمعي وشرائحه الأخرى. الأهم، أن تنتج من صراع الأفكار، خلاصات تحقق الهدف المنشود من الإصلاح والتغيير، أي أن تجديد الأفكار يجب أن يرتبط بالهدف الأسمى، في إيجاد علاقة متوازنة بين الحداثة والأخلاق، وإلا كان تجديداً جامداً لا نفع يرتجى منه.