{أرجنتينا 1985}.. كوبول لصالح قضايا الشعوب

ثقافة 2023/04/03
...

  باسم سليمان


في التاريخ محاكمات شهيرة جدا، لربما أشهرها محاكمة سقراط، أما في زمننا الحالي، فتعد سلسلة محاكمات نوفمبر، التي رفعت أقواسها من أجل إدانة النازيين الألمان ذات صدى ما زال يتردد إلى الآن، لكن هناك محاكمة لها خصوصية حدثت في الأرجنتين، وذلك عندما قاد المدعي العام خوليو سترا سيرا - ريكاردو دارين- التحقيق في الجرائم، التي ارتكبها المجلس العسكري الذي حكم ما بين 1967-1983 بعد أن استلمت حكومة مدنية السلطة.

كان الممثل ريكاردو دارين، الذي عرفناه في فيلم (السّرّ في عيونهم)، في العشرينات من عمره، عندما حدثت تلك المحاكمة، التي بُثت على التلفاز والراديو بشكل مباشر. وما زال يتذكّر تلك الشكوك، التي حامت حول جدوى محاكمة أعضاء المجلس العسكري، فالديمقراطية لم تكن قد تجذّرت بعد، والمجلس العسكري ما زال قويًّا. أمّا المخرج سانتياجو ميتري المولود عام 1980، فقد كان صغيرًا جدًا ليمتلك ذكريات عن تلك الحقبة، لكنه صرّح بأنّه يكنّ إعجابًا كبيرًا لِما جرى عام 1985، فالسياق الذي حدثت فيه المحاكمة، والشجاعة التي تحلّى بها الأرجنتينيون كانت رائعة.

على هذه الأرضية كتب ميتري السيناريو، وأدار شريط كاميرته مستحضرًا تقنيات الثمانينات السينمائية من فلاتر وإضاءة وأمكنة. حتى أنّ التصوير جرى في القاعة ذاتها، التي شهدت إدانة أعضاء المجلس العسكري، بأحكام تتدرّج من عدم المسؤولية إلى المؤبّد. وفي هذه القاعة جرت المرافعة الشهيرة التي صدح بها لسان المدعي العام خوليو سترا سيرا، والتي ساهم في حبْك كلماتها، ليس النصوص القانونية فقط، بل رأي صديقه المسرحي، وابنه، وزوجته، ومساعده مورينو أوكامبو - خوان لانزاني- وحتى دانتي عندما ذكر الجحيم الذي يعيش فيه هؤلاء القتلة. 

قدّر عدد المختفين إبّان حكم العسكريين بما يقرب من عشرة آلاف شخص. وقد جمع ستراسيرا الكثير من الشهادات لمن ظلّوا أحياء، بعد أن نجوا من جلسات التعذيب، ولمن فقدوا أفرادًا من أسرتهم ولم يعرفوا عنهم أي خبر. ولم يكن لذلك أن يتم لستراسيرا إلا بمساعدة فريق من الشباب غير الاختصاصيين، أطلقت عليه الصحف وقتها: "أطفال ستراسيرا"، فقد تنكّف القانونيون الأكفاء عن المساعدة، فالانتماءات والمصالح كانت لم تزل متحكّمة. لكن هذا الفريق القانوني الذي لا يمتلك الخبرة، كان الأمل يحدوه نحو مستقبل أفضل. وهذا هو جوهر فكرة العدالة، فالعدالة لا تهدف فقط إلى الاقتصاص من المذنبين، إنّما تسعى لتأمين مستقبل آمن.  

يعدُّ فيلم أرجنتينا 1985 فيلما دراميًا تاريخيّا، يستند إلى شهرة محاكمة تُبرز جدوى الديمقراطية في إحقاق العدالة ومنع تغوّل السلطات، فما الذي كان بيد المخرج وكاتب السيناريو سانتياجو ميتري، أمام قضية شهيرة، ليس في التاريخ الأرجنتيني، بل العالمي أيضًا، وأسالت حولها الكثير من الحبر؟ 

لم يكن همّ المخرج توثيقيّا، وإنّما إظهار مشاعر الناس في تلك الفترة، سواء أفراد عائلة ستراسيرا، الذين شكّلوا له دعمًا عاطفيّا وفكريّا، أو نائبه الذي  كان ينتسب إلى الطبقة العسكرية، لكنه انحاز إلى الشعب، واستطاع إقناع أمّه التي كانت رافضة لكلّ التهم التي وجّهت إلى المجلس، لكنّها غيّرت رأيها بعدما رأت شهادة المرأة الحامل، التي أنجبت طفلتها وهي معصوبة العينين على مقعد سيارة، وغير ذلك من شهادات لأناس عذّبوا.                                                                                            أجرى المخرج ميتري روحًا مرحة في ثنايا فيلمه، ليس لكي ينقذه من تجهّم وجه العدالة وإجراءات التحقيق، بل قصفٌ إبداعيٌّ لآلة الحكم العسكرية، لأن الشعوب عندما تسترد حقّها، لا تعمل وفق أساليب الانتقام التي تشتهر بها الآلة العسكرية عندما تخرج عن دورها في حماية البلد. فقسمات وجه العدالة التي ترفعها يد الشعوب تكون ضاحكة، وكثيرًا ما ترمي الديكتاتوريين بالبيض والبندورة، لا بالرصاص. رافقت أجواء الفيلم موسيقى لها حسّ فكاهي، جاءت متوائمة مع اللمسة الساخرة من قبل ستراسيرا وأعضاء فريقه، وكأنّ هذه المسحة الفكاهية كانت جوابًا على كل القمع الذي جرى على يد المجلس العسكري.

جاء أداء ريكاردو دارين لشخصية المحقّق خوليو ستراسيرا رائعًا، عندما أظهر تلك الشكوك التي عاشها في أولى إرهاصات التحقيق، ما بين كونه مجرد موظف، وما بين صفته كمدعي عام يمثّل الشعب، لا المنظومة السلطوية. خاصة عندما تلا لائحة الاتهام الأخيرة في المحكمة، حيث لم يبق للأداء الجسدي من مكان، فكان صوته حاملًا لكلّ الآمال التي تعتمل في داخله، وفي داخل الحاضرين في قاعة المحكمة، والمتسمّرين أمام شاشات التلفزيون والراديو في ذلك الزمن، والأهم لمن لم يصلوا بعد إلى حقوقهم، أو سقطت بتقادم الزمن وعدم كفاية الأدلة. تكمن أهمية  فيلم أرجنتينا 1985 بتأكيده على أنّ الحقوق لا تموت، حتى لو مات من يطالب فيها، فدور الفن يكمن في أن يبقي تلك الحقوق حيّة، ما دام هناك مظلوم لم يرفع عنه الظلم.  

حاز فيلم Argentin  1985 على جائزة الغولدن غلوب عن فئة الفيلم الأجنبي. وهو من إخراج سانتياغو ميتري، سيناريو سانتياغو ميتري وماريانو ليناس. تمثيل: ريكاردو دارين، بيتر لانزاني. إنتاج عام 2022.