الإذاعة العراقيّة في القرن العشرين

منصة 2023/04/03
...

 أ.د. سيّار الجميل *


لما كنت أعمل اليوم على إصدار الطبعة المزيدة والجديدة كاملة من كتابي "انتلجينسيا العراق: النخب المثقفة في القرن العشرين" الذي أصدرته متسلسلاً قبل ربع قرن، فقد عالجت فيه اليوم موضوع النخبة العراقيَّة المثقفة التي عملت في دار الإذاعة العراقيَّة التي سجلت لها تاريخاً مزدهراً مستنيراً، ولكنْ ارتكبت فيه خطايا مقرفة لاحقاً.


كانت أول إذاعة رسميَّة تأسست في الشرق الأوسط . صحيح سبقتها ثلاث إذاعات أولها في القاهرة لشركة ماركوني، وثانيتها في القدس للقوات البريطانية، والثالثة إذاعة المشرق ببيروت بارتباط فرنسي.. في حين كانت إذاعة بغداد حكوميَّة عراقيَّة بامتياز، إذ بدأ البث لأول مرة يوم 1 حزيران/ يونيو 1936، فقد سمع العالم لأول مرَّة صوت العراق عبر الأثير على الساعة 8 مساء بالفصحى مع تلاوة رخيمة من القرآن الكريم بصوت الأستاذ عبد العزيز الخياط مفتتحاً، وغناء لأم كلثوم "الصبّ تفضحه عيونه" وحزمة أخبار بصوت إبراهيم حلمي العمر مدير الدعاية العام وتهادى صوت سليمة باشا في حفلٍ أقيم بالمناسبة ومن محطتها المزينة بالزينات المتواضعة وسعفات النخل في الصالحيَّة مع تجمّع مواطني الكرخ عن بكرة أبيهم، وكان الناس ينتظرون من خلال أجهزة الراديو التي انتشرت في المقاهي والساحات هذا الحدث وهم مندهشون وفرحون معاً.. نعم، كان الفرح طاغياً والحبور عظيماً، وكان الملك غازي يتابع بنفسه هذا الحدث الكبير مع الناس، وقد أكد على التلاوة ومن ثم جعل الإذاعة أداة حيويَّة للتثقيف والشعر والأدب والعناية بالصحة والمعرفة العامَّة ونقل أخبار العالم والاستمتاع بالموسيقى والغناء.

بطبيعة الحال، استمرت إذاعة بغداد وتطورت مع الأيام، وغدت برامجها تعلن شهرياً عبر مجلة الإذاعة يحرص الناس على اقتنائها لمتابعة البرامج يومياً، وشهدت الإذاعة العراقيَّة أقوى المذيعين والمذيعات بأصواتهم القوَّية وثقافتهم الواسعة ولغتهم الرصينة، كما وكانت مضامين برامج الإذاعة رائعة ينتظرها الناس الى جانب عنايتها بالغناء العراقي وتشكلت اللجان للفحص، وأخذت تستقطب كل المبدعين في الثقافة والأدب والطرب وقراءة المقام العراقي.. ناهيكم عن التحليلات والتعليقات السياسيَّة وبرامج اجتماعيَّة في الصباح.. وبدأ العراقيون يلازمهم سماع الراديو في كل مكانٍ وزمان، وأخذت أجهزة الراديو تدخل البيوت وتصدح في المقاهي في كل مدن العراق لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليوميَّة العراقيَّة.. وبالرغم من تأسيس أول تلفزيون عراقي بعد عشرين عاماً من وجود الراديو، إلا أنَّ الأخير بقي سيد الموقف بأحجامه المختلفة وبرغم انتشار الاسطوانات، لكنَّ الراديو هو الملجأ الحاكي مع حركة الموجات الإذاعية لكل العراقيين كبيرهم وصغيرهم، غنيّهم وفقيرهم.. وغدت الإذاعة نافذة إعلاميَّة أساسيَّة للسلطات في الدولة للتعبير عن سياساتها، بحيث سهل على الدولة أنْ تخبر الشعب كله بأخبارها ومواقفها من القضايا الداخليَّة والعربيَّة والخارجيَّة وبث الأغنيات التمجيديَّة.. وقد وصلت خطورة الراديو الى درجة إسقاط حكومات وأنظمة كاملة، إذ يتلقى المستمع شتى أنواع الإذاعات عبر جهازه من دون أنْ يتقيدَ سماعه لمحطة واحدة ، بل وغدا الراديو الوسيلة الأساسيَّة لصناع الانقلابات على أنظمة الحكم.. وهذا ما جرى في إذاعة بغداد وخصوصاً في الأعوام 1958 و1963 لمرتين وعام 1968 وهلمَّ جرا.. فمنها لعلع صوت عبد السلام عارف فجر 14 تموز 1958، وفي احد استديوهاتها أعدم الزعيم عبد الكريم قاسم يوم 9 شباط 1963، ومنها انطلق انقلاب 17 تموز 1968 وبياناته.. وهكذا، فكل الأحداث الخطيرة جرت في الإذاعة في قلب الصالحية.. بل واستخدمت السلطات أحياناً أجهزة تشويش على إذاعات خارجيَّة وحظر الاستماع إليها.

كان الراديو في القرن العشرين هو الإعلامي الأول الذي اخترق الآفاق بعد أنْ كانت الصحف سيدة الموقف، وفي الستينيات من القرن العشرين، بدأ الراديو محمولاً ويعمل بالبطاريات فكانت أجهزة الماسكت الكبيرة، ثم انتشرت أجهزة الترانسستور الصغيرة لتكون آخر موديلات العصر لينتشر بالأيدي وفي أعماق المدن والأرياف وفي البوادي والجبال، كما أسهم الراديو بموجاته المتوسطة والقصيرة قبل ظهور المحليات بسماع مختلف المحطات العربية والأجنبيَّة. 

كان من أوائل المذيعين العراقيين: عبد الستار فوزي (أول مذيع) ويونس بحري وسلمان الصفو وحسني الكيلاني وكاظم الحيدري ومحمود الهاشمي وسلمان الصفواني ومحمد علي كريم ووديع خوندة وفكتوريا نعمان (أول مذيعة) وناظم بطرس وعبد الحميد الدروبي وفيصل حسون وحافظ القباني وصولاً الى سعاد الهرمزي وقاسم نعمان السعدي وإبراهيم الزبيدي وأحمد الحسو وصبيحة المدرس وكلادس يوسف وسليم المعروف وبهجت عبد الواحد وصولاً الى مقداد مراد وفريال حسين وأمل حسين وغيرهم كثير.. وتوالت قائمة المذيعين والمذيعات وكانوا يجهرون بأصواتهم، كما عمل بعض المذيعين العرب في محطة بغداد، أمثال: سميرة عزام وتغريد الحسيني وعبد الهادي مبارك وعبد الهادي البكار، وقد انبرى أغلبهم ليقدموا برامج ثقافيَّة وترفيهيَّة وسياسيَّة.. كما غدت الإذاعة العراقيَّة مأوى يلتجئ إليه أصحاب المواهب والمبدعين والفنانين أو المتحذلقين والمتطفلين والباحثين عن الشهرة.. ووصلت الإذاعة الى أنْ تستقطب بعض العلماء واللغويين والمؤرخين والشعراء والأكاديميين، لا سيما في زمن تمتّع فيه المجتمع بهامشٍ عريضٍ من الحريَّة، ومع تقييد الحريات وفرض الموانع والتحريمات، وجعل الإذاعة واجهة أساسيَّة للسلطة السياسيَّة، بدأت تسوء أحوال المحطة العراقيَّة بغياب برامج واسكتشات ومنع أغنيات ومونولوجات وأسماء،كانت الإذاعة (ومن بعدها التلفزيون) أهم وسيلة دعائيَّة وسياسيَّة تدير السلطة منها البلاد، وكان نوري السعيد يزورها دوماً، ويداوم غيره على سماعها ويفرض ما يريده عليها، ولكنْ ما يلفت النظر حقاً أنَّ الإذاعة العراقيَّة اختلفت في برامجها كلها بين العهد الملكي والعهود الجمهوريَّة التي تلتها، إذ يرى بعض المختصين أنها لم تكن بوقاً دعائياً للسلطة ومنجزاتها حتى العام 1958، في حين غدت تسبح بحمد السلطات والزعماء ليل نهار وتذيع الأغنيات بحقهم، ولا بُدَّ من القول إنَّ بعض المذيعات والمذيعين تعرضوا للتحقيق والمحاكمات والمعتقلات والتعذيب سواء في محكمة المهداوي وصولاً الى الأمن العامة ودوائر المخابرات! ويخبرني الأصدقاء الذين عملوا في دار الإذاعة وقت ذاك أنها شهدت مختلف البدائل والطرائف والمفاجآت والعواطف الساخنة والصداقات الحميمة مع خطايا ارتكبها البعض من المتحزبين أو السياسيين والانتهازيين والوصوليين والمتملقين ورهانات البعض على المنافع الخاصة مع قصصٍ مخجلة لبعض من مديريها مع الفنانات خصوصاً! 

هكذا، ومع وجود وسائل إعلاميَّة أخرى والتلفزيون أبرزها عند نهايات القرن العشرين، قلَّ الاهتمام بسماع الراديو ومع دخول الفضائيات والانترنيت والموبايل بعد العام 2003، إذ كانت كلها محرمة بتاتاً. اختفى دور الإذاعة أو كاد يموت في القرن الحادي والعشرين.


* مؤرخ عراقي