الغريغوري والنيبالي وغيرها...الحياة ضمن توقيتاتٍ زمنيَّةٍ متعددة

بانوراما 2023/04/03
...

 إيرين كريغ

 ترجمة: مي اسماعيل

يعيش الكثيرون حول العالم وفق تقويمات زمنية مختلفة، وبالنسبة لبعضهم يكون هذا سببا لأعياد ميلاد غير مألوفة.. تقول كاتبة المقال: "لم أشعر بالشك حتى بلغت الأربعين "للمرة الثالثة".."؛ إذ يبدو أن ثقافات عديدة لا ترى بأساً بتجربة سنوات متعددة (أو أعمار متعددة) في وقت واحد. عند بداية عام 2023 في أرجاء العالم كانت السنة 1384 في ماينمار؛ أما تايلند فستدفعنا قدما الى العام 2566. يصوم المغاربة في عام 1444، لكنهم يزرعون مواسمهم في 2972؛ ويمر الأثيوبيون بالعام 2015 الذي يحوي 13 شهرا بالنسبة لهم.


وفي كوريا الجنوبية (حيث تعيش كاتبة المقال) فإن رأس السنة الجديدة هو عيد ميلاد الجميع؛ مما يفسر كيف مرت بتلك الذكرى ثلاث مرات! 

يولد اطفال كوريا الجنوبية لسنتهم الأولى، ومنذ تلك النقطة فصاعدا يكون لهم اثنان أو ثلاثة أعمار "رسمية" في أي وقت: محليا ودوليا (بدءا من عمر الصفر)، وسنة إضافية عندما يتقدم البلد بأكمله معا عند اليوم الأول من كانون الثاني.

وهذا الاخير يمكن أن يحدث رمزيا ايضا عند السنة القمرية الجديدة. 

علاوة على ذلك يمكن للكوريين اختيار الاحتفال بأعياد ميلادهم الشخصية مع التقويم الغريغوري أو التقويم القمري التقليدي؛ مما قد يسمح بالاحتفال بالمناسبة ست مرات (تقنيا).  


الطريق البطيء إلى "الآن"

التواريخ هي خلفية لحياتنا، واحدى من تلك الأشياء التي تؤخذ كالمُسلّمات؛ لكن أي تاريخ (لنقل أنه اليوم الاول من شهر كانون الثاني 2023 على سبيل المثال) هو صنيعة نظام محدد لضبط الوقت؛ وهو في هذه الحالة التقويم الميلادي (الغريغوري). 

باعتباره التقويم العالمي المعياري (المصنف وفق مقاييس ISO) والمعتمد عبر القطاعات الدولية من الطيران إلى السياسة؛ قد يفترض المرء أن التقويم الميلادي دقيق وفعال للغاية.. لكن الواقع ليس كذلك! إذ ارتفع هذا التقويم إلى الهيمنة إلى حد كبير لكونه في المكان المناسب والوقت المناسب والثقافة الإمبريالية المناسبة. 

جرى إنشاء التقويم الغريغوري (وهو نتاج للعقيدة الدينية وعلوم عصر النهضة) لتصحيح الانحراف بين السنة الليتورجية الكاثوليكية (التي كانت تستند إلى التقويم اليولياني) والسنة الشمسية الفعلية. 

لم يكن التقويم اليولياني يختلف سوى بإحدى عشرة دقيقة و14 ثانية؛ وهذا انجاز رياضي مُبهر بالنسبة لحسابات تعود لسنة 45 ق. م.؛ لكنه إختلاف يتراكم بلا توقف على مر القرون. 

وبحلول الوقت الذي أمر فيه البابا "غريغوري الثالث عشر" بإلاصلاح أواخر القرن السادس عشر؛ كانت السنة التقويمية خارج التزامن مع الفصول بنحو عشرة أيام. 

قلص التقويم الغريغوري التأخُّر الى 26 ثانية؛ ومع ذلك قوبل تقديمه في العام 1582 بمقاومة فورية؛ إذ رفض المسيحيون البروتستانت والأرثوذكس إعادة تصور مفهوم الزمن بناء على مرسوم بابوي! لذا، لم تتبنَ التقويم الجديد سوى المناطق الكاثوليكية بحلول القرن السادس عشر، وبتوالي القرون انضمت مناطق اخرى للتقويم، هما كل من ألمانيا وهولندا البروتستانتيتين نحو القرن السابع عشر، وانكلترا ومستعمراتها بحلول القرن الثامن عشر. 

ومع حلول بدايات القرن التاسع عشر دمجت دول بعيدة غير مسيحية مثل اليابان ومصر اسلوب حساب الوقت ذاك في طريقة حسابهم له؛ لكن دولا تدين بالمذهب الأرثوذوكسي مثل رومانيا واليونان بقيت بعيدة عنه حتى نهاية القرن العشرين. 

وبقي الحال على ما هو عليه حتى جاءت سنة 2000 عندما استقبلت أوروبا بالإجماع قرنا جديدا في الأول من كانون الثاني وفقا للتقويم الميلادي. 

لكن اغلب القوى الامبريالية الرئيسية سارت على قاعدة التقويم الغريغوري منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ حينما أدخلت حقبة من الاستعمار نحو ثمانين بالمئة من بلدان الكوكب تحت حكم أوروبا؛ بالتزامن مع تحرك ضمن المجتمعات العلمية والتجارية الأوروبية/ الأميركية نحو تقويم عالمي موحد لتفعيل التجارة. 

وقد أدى التقويم الميلادي ذلك الدور على نحو تلقائي. 


الاستخدام الموازي للتقويم

انتشرت التقويمات الزمنية في المناطق، التي لم تغزوها أوروبا بطرق أخرى.. قالت المؤرخة "فانيسا أوغل" في كتابها "التحول العالمي للزمن" أن الرأسمالية والتبشير بالديانة المسيحية والعاطفة العلمية للتوحيد فعلت الكثير لتوحيد قياس الوقت أكثر من أي سياسة إمبريالية. 

ولم تكن السياسة الاستعمارية حتى عاملا أساسياً هنا.. كانت بيروت تحت الحكم العثماني عندما ظهرت التواريخ الغريغورية في تقويماتها خلال أواخر القرن التاسع عشر، ولم تخضع اليابان للاستعمار قط؛ لكنها تبنت التقويم الغريغوري في العام 1872.

ولعل هذا القبول بات أسهل بمعرفة ان هذا التعامل لن يكون أحادي الجانب. 

كان استخدام التقويمات المتعددة موجودا منذ آلاف السنين قبل ظهور التقويم الغريغوري.

استخدم كل من المصريين القدماء وشعب المايا تقويمين منفصلين؛ أحدهما ديني والآخر اداري. 

وفوّض ملك كوريا "سيجونغ" باستخدام نظامين تحديدا لإصلاح التقويم الخاص به عام 1430؛ أحدهما مقتبس من التقويم الصيني والآخر من العربي. 

كان التقويم الغريغوري خلال ثمانينات القرن التاسع عشر ببيروت واحدا من أربعة تقويات تستخدم يوميا، وحتى اليابان التي تحولت ظاهريا بشكل كلي الى التوقيت الميلادي فقد احتفظت بنظامها الامبراطوري الزمني: تقويم "روكيو-Rokuyo" للأيام المباركة، وتقويم "Sekki 24" للتغيرات الموسمية؛ وكلاهما لا يزال مستخدما حتى يومنا هذا. 

صاغت عالمة الأنثروبولوجيا الاجتماعية "كلير أوكسبي؛ التي درست استخدام التقويم بمنطقتي الساحل والصحراء؛ مصطلح "تعددية التقويم" لوصف التعايش بين أنظمة ضبط الوقت المتعددة؛ كما تصف التعددية القانونية مجتمعات ذات أنظمة قانونية متعددة. 

قد يبدو هذا كمنطق متقلب؛ ولكن التقويمات المختلفة لها (عمليا) وظائف مختلفة. تستخدم مجتمعات شمال أفريقيا من الأمازيغ والطوارق وغيرها من الناطقين بلغة البربر تزامنا ثلاثة أو أربعة أنظمة توقيت: التقويمات النجمية لتقود المواسم الزراعية، والتقويم القمري الإسلامي لحساب الشعائر الدينية، والتقويم الغريغوري للتعامل مع الدولة.. إذا يمكن أن يكون العيش ضمن جداول زمنية متعددة طريقة عملية لتوحيد الاحتياجات الزمنية المختلفة. وهذا ليس بالمبدأ غير المألوف في أوروبا وأميركا الشمالية؛ حيث للأشخاص سنوات دراسية وسنوات مالية، على سبيل المثال.. إذ إنها من نواح كثيرة مجرد مسألة متى نبدأ العد.

ومع أن التعددية كانت ثابتة تاريخية، فإن التقويمات نفسها تتغير طوال الوقت؛ وقد تبدو تلك المستخدمة اليوم مختلفة حتى بعد عقود قليلة قادمة؛ كما ترى أوكسبي: "لعل الاستخدام الموازي للتقويمات المتعددة أكثر حضوراً في عالمنا المعاصر مما كنا نظن، فقد يكون لديك المزيد أو أخرى مختلفة؛ فالثقافة الإنسانية تتطور باستمرار".  

على مسار التغيير

يمثل توسع المجال الرقمي أحد التحولات الثقافية المستمرة؛ إذ حلت كابلات الألياف الضوئية محل طرق التجارة القديمة، وحملت التقويم الغريغوري للأماكن التي لم يتمكن الاستعمار من الوصول إليها. 

فأوجد الاتصال نوعا جديدا من تعددية التقويم؛ حاليا على الأقل.

بالنسبة لدولة النيبال فهي واحدة من الدول القلائل على الارض التي لا يمثل التقويم الغريغوري تقويمها الوطني؛ فمن الناحية الرسمية تكون السنة الآن إما 2079 (وفق تقويم "بكرام سامبات") أو 1143 (وفق تقويم "نيواري نيبال سامبات").. أو الاثنان معا! عموما هناك أربعة تقويمات مختلفة (على الاقل) تستخدمها المجموعات العرقية المتنوعة، ويختلف فيها موعد بدء العام الجديد. 

كما ان للنيبال 15 دقيقة غير متزامنة مع المناطق الزمنية القياسية؛ فهو بلد له مسار زمني خاص به. 

لكن استخدام أحد تلك التقويمات فقط لا يمثل نظاما زمنا أحاديا تماما؛ إذ يحتوي "بكرام سامبات" على عدة طبقات من ضبط الوقت الثقافي والديني خلال سنته الشمسية، و12 شهرا قمريا وستة فصول. 

ولكن بالنسبة إلى الهندوسي الذي يعيش في كاتماندو؛ يغطي هذا النظام جميع جوانب الحياة اليومية من أيام الصيام إلى يوم الدفع.

وبينما يحتاج شخص نيبالي مثل "سانجيف داهال" الى تقويم واحد داخل النيبال؛ فانه يحتاج الى التقويم الغريغوري لأنه طالب دكتوراه عن بُعد (بجامعة بوسطن)؛ وهذا يعني أنه منخرط بشدة في تقويم ثقافة أخرى: الثقافة الرقمية، التي تكاد تكون (مثل أوروبا الإمبريالية عند القرن التاسع عشر) غريغورية بشكل حصري.

يقول داهال: ""أنا موجود في مكانين وزمانين"؛ ويعالج هذا اللغز التكنولوجي بحل تقني؛ إذ ضبط جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به لعام 2023 وهاتفه الذكي لعام 2079؛ وهناك تطبيق يساعده على التنقل بين الاثنين. 

قد يُعيد التاريخ نفسه؛ إذ شهد القرن الحالي (كما جرى أواخر القرن التاسع عشر) اندفاعا نحو توحيد التقويم لأسباب اقتصادية. 

غيرت المملكة العربية السعودية عام 2016 جدول رواتب موظفيها من التقويم الإسلامي إلى الغريغوري؛ في ما تم تفسيره إلى حد كبير على أنه إجراء لخفض التكاليف. 

وأقرت كوريا الجنوبية مشروع قانون يستغني عن حساب الأعمار التقليدية بدعوى أن النظام متعدد الأعمار غير فعال اقتصاديا، سيدخل القانون حيز التنفيذ هذا العام. 

لكن 150 عاما من عولمة التقويم لم تُبطِل التعددية.. قد تأتي التقويمات وتذهب؛ لكنها تتغير غالبا؛ وإذا كان هناك شيء واحد يجيده البشر، فهو التغيير.


بي بي سي البريطانية (المستقبل)