لم تغيّرها السنوات عاداتٌ رمضانيَّة عراقيَّة يتوارثها الأبناء والأحفاد
نافع الناجي
يأتي شهر رمضان بأجوائه الروحانيَّة والإيمانيَّة فتمتلئ المساجد في العراق بالمصلين من مختلف الفئات العمرية، لتأدية التراويح والتهجّد والابتهالات الدينية، وبعد أداء الصلاة يذهب الجميع إلى حيث تقوده اهتماماته، فيركض الأطفال في الطرقات، وهم يتغنون بالنشيد البغدادي المعروف (ماجينا يا ماجينا.. حل الكيس وإعطينا)، أما الشباب فسرعان ما يذهبون إلى لعبة (المحيبس) المعروفة، والتي تستمر حتى ساعات الفجر، وتنتشر هذه اللعبة التراثية في الشارع العراقي الشعبي بشكلٍ لافت.
تعليق الفوانيس والزينة
وبرغم أن هذا المشهد يتكرر في كثيرٍ من الأيام الاعتيادية، لكن في رمضان يكون له طعم مختلف، إذ يتداول الناس هنا وهناك داخل الأحياء والأسواق والمقاهي الشعبية، الأحاديث والذكريات المختلفة عن الأجواء الرمضانية وطقوسها الخاصة، وكثيراً ما يمتزج كلامهم بالأماني والدعوات المرفوعة من ألسنتهم، عساها تكون مستجابة من لدن ربٍ رحيم في هذه الأيام المفترجة والمباركة.
ومن بين العادات والتقاليد التي يحرص العراقيون على إتباعها خلال الشهر الكريم، هي شراء الفوانيس المتنوعة وتعليق الزينة والنشرات الضوئية ومصابيح النيون في المحلات والشوارع والبيوت، كنوعٍ من إضفاء البهجة والاحتفاء بمقدم الشهر الفضيل.
مهمات حربيَّة
الآباء والأمهات لديهم أشبه بمهمات الحرب، فالعراقيون في شهر رمضان المعظم يستعدون للشهر الفضيل، وكأنهم يخوضون حرباً، فهم يقدمون على شراء وتخزين المواد الغذائية بصورة هائلة، تشبه تخزينهم للمواد الغذائية أيام الحروب والأزمات التي مرت عليهم طيلة نصف القرن الماضي.
تقول فريال أحمد "نخشى من الاحتكار وان يقوم التجار برفع أسعار بعض السلع ذات المساس بالشهر الفضيل، لذا نسابق الزمن ونشتري كميات تغطي كل أيامه ولغاية العيد". وتحرص فريال وقريناتها بتهيئة الركن الرمضاني في إحدى غرف المعيشة، حيث ترص حلوى السكاكر وفوانيس رمضان والشموع وأنواع البخور المعطرة، مع طيفٍ واسعٍ من الحلويات التقليدية والشرابت كقمر الدين والتمر هندي ونومي البصرة.
الشورجة.. نبض الاقتصاد العراقي
تحتل سوق (الشورجة) مكانة خاصة عند العراقيين فهي قلب بغداد النابض ورمزها الاقتصادي المتين، كما تعد هذه السوق المقصد الرئيسي لهم لتجهيز موائد إفطارهم الشهية، فهي توّفر كل المواد الغذائية بأسعارٍ تناسب الجميع.
ومن المعلوم أن مائدة الإفطار العراقية تتنوع بين عدة أصناف، تأتي على رأسها شوربة حساء العدس و(الشنينة) أو اللبن البارد، وحبات الرطب أو التمر، ومن الأكلات الشهيرة البرياني والمقلوبة والكبسة والقوزي والدجاج ومرقة الباميا والدليمية والدولمة، وأنواع الكبة الحلبية أو الموصلية والبرغل والسراي وغيرها كثير.
تحضيرات الشهر الفضيل
ولعلَّ واحدة من ميزات وعادات وتقاليد هذا الشهر الفضيل، هي سقوط الفوارق الطبقية بين الناس عند الركون إلى عبادات وطقوس الشهر، فالكل سواسية وأثناء تجوالنا في السوق لاحظنا المواطنين بمختلف شرائحهم وهم يتحضرون لإعداد فطورهم، وبينهم سياسيون وبرلمانيون وأناس بسطاء، يتخيرون ما تطيب به أنفسهم للإفطار بعد صيام يومٍ طويل ومرهق، وتعجُّ الأسواق بالراغبين في شراء مستلزمات الموائد الرمضانية رغم ما يعانونه من تداعيات ارتفاع الأسعار وما يرافق الأمر من انعكاسات.
يقول المتقاعد سلمان عبد الرضا "الحمد لله فالأجواء الرمضانية هذا العام، من فضل الله ممتازة وتزامن الشهر الفضيل مع أجواء ربيعية مميزة لم نلمس فيها جواً حاراً"، ويضيف "كل شيء موجود في الأسواق من بضاعة وتجهيزات غذائية، كما أن الحكومة نجحت بتوفير السلة الرمضانية والحصة التموينية، فهونت علينا أسعار السوق التي شهدت ارتفاعات معلومة بمثل هكذا مواسم، والحمد لله الأمور تبشر بخير مع توفر الأمان وتحسن الخدمات وأهمها الكهرباء".
مدفع رمضان
أما أشهر التقاليد أو العادات التي اعتادت عليها أغلب الشعوب الإسلامية العربية وليست العراقية فقط، فهي إطلاقات مدفع رمضان الذي تم استعماله قديماً، لتنبيه أهل بغداد وسائر المدن الكبيرة بموعد الإفطار، بسبب انعدام الإذاعات ووسائل الإعلام والتواصل آنذاك، وانتقلت فكرة مدفع الإفطار في العهد العثماني من بلاد الشام إلى بغداد في نهاية القرن التاسع عشر على الأرجح، وبقيَّ مدفع الإفطار محفوراً في ذاكرة العراقيين حتى الآن، وينتظره الأطفال بشغف منقطع النظير قبل أذان المغرب مباشرة.
(ابو طبيلة) المسحراتي
أما لمسة الحراك الديناميكية التي لا تخلو منها كل المدن العراقية، فهو المسحراتي أو ما اصطلح على تسميته بأبي (طبيلة)، سواء كان على النمط القديم بطبلته ودفوفه، التي يصاحبها الصوت العتيق الممزوج بعبق الماضي، أم النمط الحديث الذي ظهر مؤخراً في بعض الأحياء والمحلات الشعبية، والذي تخلى عن الطبلة المعهودة واستبدلها بآلات ونغمات موسيقية راقصة وآلات النفخ الهوائية، التي تشبه إلى حدٍ كبير إيقاعات حفلات الزفاف والأفراح.
استعدادات عيد الفطر
وما أن يبدأ شهر رمضان إلا وتجد أيامه تنقضي بسرعة كبيرة، فالعراقيون في الثلث الأخير من هذا الشهر الكريم، يستعدون بشغفٍ كبير لاستقبال عيد الفطر السعيد، من خلال تزيين البيوت لاستقبال المهنئين من الأقارب والأصدقاء، ليأتي اليوم الأخير من شهر رمضان، فيقف العراقيون على أسطح المنازل وقرب المآذن والمنائر لمراقبة هلال شهر شوال، وعند رؤيته يودعون رمضان الخير، قائلين الوداع يا شهر رمضان الوداع يا شهر الطاعة والغفران.
وفي هذا اليوم يتسحرون بما يسمى (سحور اليتيمة)، وفي صباح أول يومٍ من أيام العيد، تضجّ مآذن ومكبرات المساجد والساحات بالصلاة على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مرددة تكبيرات الإحرام، حيث تعمُّ في مثل هذا اليوم روح المحبة والتسامح بين جميع طوائف الشعب العراقي.
ومن أهم مظاهر العيد ارتداء الثياب الجديدة وزيارة الأهل وصلة الرحم وإقامة الألعاب والأراجيح المخصصة للأطفال في ميادين وحدائق عمومية، وبعد توزيع النقود (العيديات) والهدايا والحلوى بين الأطفال الذين يزينون شوارع المدن بلباسهم الجديد وحيويتهم المعتادة، ينطلقون بسعادةٍ وحبور، إلى هذه الألعاب كالفرارات والدواليب الهوائية والأراجيح من كل الأنواع.
معمول التمر (الكليجة)
وتشرّع النساء من الأسر في المحلة الواحدة وبيوت الجيران، بالتعاون مع الأفران والمحلة المختصة ببيع الحلويات، في تحضير حلويات العيد المختلفة كحلويات المعمول (كليجة التمر أو الحلقوم أو جوز الهند)، التي تقدم عادةً مع أقداح الشاي وعددٍ من الحلويات العراقية الأخرى، كالمن والسلوى أو الحلقوم أو المصقول والمكسرات والموالح التقليدية (فستق، بندق، جوز، لوز..الخ).
بعد تناول هذه المأكولات في الصباح تبدأ الزيارات العائلية، وأول بيت يزوره العراقيون هو بيت الوالدين أو بيت العائلة الكبير، إذ يبقون هناك إلى أن يحين موعد الغداء، ثم ينطلقون لتقديم المعايدة للأرحام والأقارب والأصدقاء، أو زيارة الأموات وتذكرهم والاستغفار لأرواحهم في المقابر.
زيارات الأضرحة والمقامات الدينيَّة
ولشهر رمضان نكهة خاصة لدى العراقيين، كما أن له قدسية كبيرة في نفوسهم، إذ يجري الناس تحضيرات تجذّرت في عاداتهم وتقاليدهم الضاربة في القدم، وتتجه الأسر لزيارة الأضرحة والعتبات الدينية المقدسة في طول البلاد وعرضها، وغالباً ما تنظم رحلات جماعية بباصات كبيرة مكيفة، لزيارة المراقد والعتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، عشية كل ليلة خميس ولغاية فجر يوم الجمعة لزيارة الأئمة من أهل البيت وبعض المزارات والشواخص الإسلامية المهمة، كالحضرة القادرية المطهرة والأمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في جانب الرصافة من بغداد وغيرهما.
كما أن الشركات السياحية تعده شهر ازدهار لعملها، في تنظيم المجاميع والوفود الدينية (الكروبات)، لا سيما إلى سوريا لأداء طقوس الزيارة للسيدة زينب ورقية وسكينة (ع)، أو إلى إيران لزيارة المشهد الرضوي المقدس والسيدة فاطمة المعصومة (عليهما السلام)، فضلاً عن استمرار الرحلات إلى الديار المقدسة والحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة، لأداء مناسك العمرة.
موعد لتجديد الطاعات
ولشهر رمضان الفضيل نكهة وطعم خاص لاتبرح الذاكرة، ففي هذا الشهر المعظم موعد لتجديد الطاعات والعبادات والروحانيات، وشحن الطاقة الايجابية، فهو شهر الرحمة والمغفرة تكثر فيه الصلوات والعبادات والخيرات.
وبالرغم من ارتفاع أسعار السلع والبضائع، الا أن ذلك لم يكن عائقا في ممارسة الطقوس المعتادة لدى الأسر العراقية، وإقامة ولائم الإفطار والتنقل بين شتى المدن، وارتياد المساجد وأداء صلاة الجماعة والنوافل والتراويح.
وعند اقتراب الشهر الكريم من الانقضاء، يشتاق المؤمنون لعودته ثانياً، نظراً لما يشيعه في نفوسهم من بهجةٍ خاصة وذكرياتٍ عطرة تجمعهم مع أحبابهم. وتظل هذه العادات والتقاليد الراسخة التي يحرص المسلمون بعامةٍ، والعراقيون بخاصةٍ على إحيائها طوال أيام الشهر الكريم، ليورثوها إلى الأجيال التي تليهم.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة