توظيفات السيرة والأسطورة في {الحياة في غلطتها}

ثقافة 2023/04/04
...

 د. كريم شغيدل 

 وفي أول نص من مجموعته “الحياة في غلطتها”، التي هي نصوص مفتوحة، يواجهنا الشاعر زعيم النصار بكتلة نثرية عنوانها “حياة على جانب النهر” هي سيرة ذاتية تم تقسيم نصفها الأول على الأحرف الهجائية لاسمه (ز ع ي م) وفي التمهيد الذي سبق هذا التوزيع يقول النصار: « على الأرجحِ السنوات التي مرّت في الطريق المعلقة فوق الهاوية، كانت/ محشوة بالأخطاء/ لقد زهوت بها، ربما لأنها اخترعتني شاهداً عن حروب/ لن تنتهي، عن رحلة لعابرين ذهبوا لمدينة ضائعة، عن معارك دينية يمقتُها/ الله، عن ثورات آمنت بالخرافة، عن حكاية يختلط فيها الواقع والخيال/ العقل والجنون، الصورة والحدث”. (ص9).  

 وإذا ما حاولنا تفحص النص بنيةً وخطاباً فسنجد بأنه نص سيرة بامتياز، ابتداءً من عنوانه “حياة على جانب النهر” بوصفه عتبة للقراءة، وهو عنوان صريح مباشر لا ينطوي على أية مفارقة دلالية أو لغوية، إنما هو عنوان موضوعي يشير إلى مغزى النص مباشرة، ونلاحظ مفتتح النص بعبارة نثرية “على الأرجح..” ما يكرس البنية الموضوعية بنيِّة مبيتة وقصدية واعية لطبيعة النص، فالنص لم يعالج حياة مفترضة إنما حياة حقيقية من صلب التجربة الذاتية للشاعر، إذ يكثف مقدماً رؤيته للحياة بترجيح كونها (السنوات التي مرت في الطريق المعلقة فوق الهاوية...).. هكذا يرى النص حياة جيل عاش محنة الحرب والقمع والاستلاب والتمرد بما فيها من أخطاء، مع ذلك تعبر الذات الشاعرة عن زهوها، لا لأنها حياة حافلة بما يستحق العيش، بل لأنها صيرت الذات الشاعرة أو اخترعتها شاهداً على حروب لا نهاية لها، وعابرين، ومعارك دينية، وثورات، وحكاية يختلط فيها كل شيء، مجموعة متناقضات، ثم ينتقل النص من خطابه السردي إلى سؤال إنكاري مفاجئ: 

«ما هذه الغلطة؟ منذ ثلاثين سنة، تمرّ أيّامي، تتعثّر بين الصخور في/ الوادي. البرق الذي مرّ بقلبي كان عمري/ على الأرجح ستبقى حياتي مثل عجلة تدورُ، تدورُ حتى أضع حداً لها”. (ص9). 

ومن صيغة السؤال إلى صيغة السرد، ثم التعقيب فالعودة إلى معنى الرجحان، ومن ثم اختزال السيرة بمدلول كنائي، وإن كان ظاهره يدل على الاستمرارية والديناميكية أو الحركية، ونعني مدلول الدوران، إلا أنه يفضي بالضرورة إلى التكرار والفراغ والاستلاب، واللا جدوى والقطيعية واللا معنى، لذلك عمد الشاعر إلى رفض هكذا حياة تعيد دورتها بصورة آلية رتيبة، وجاءت رؤية الشاعر معبرة عن إرادة الإنسان في وضع حد لهذه الرتابة التي تشبه الموت، فالشاعر هنا لا يقصد وضع حد لحياته باختيار ميتة مناسبة، أو ترك الأمر لغيبيات القضاء والقدر، إنما الخروج من دائرة أو دورانية النسيان والعدم والاستهلاكية، نحو حياة لها معنى، ويكون فيها للإنسان معنى، لا أن يكون شاهداً على الحروب والمآسي والصراعات والخرافات أو يكون جزءاً منها، وبعد هذا التمهيد النصي، تأخذ السيرة الذاتية تقسيماً مباشراً مستمداً من حروف الاسم الأول للشاعر، إذ يبدأ القسم الأول (ز) بما يشبه شهادة الميلاد: 

«في الرابع عشر من تموز يكتبون حياته في غرفة المصائر ويحتفلون،/ يقولون: في مصادفةٍ غامضةٍ لا نظير لها، صارت له حياة، ولأطفالٍ معه هو/ أبٌ وأخ، ومع التي في سريره ابنٌ وزوج، نام في حرير مدمّى، حياته خطأٌ/ لشخص آخر، يُغريه بآخرةٍ ويمنّيه بجنّة العبيد..”(ص15).

ربما يحيلنا التاريخ أعلاه إلى محمول سياسي، لكن في الواقع هذا هو التاريخ الحقيقي لميلاد الشاعر، وحتى تسميته جاءت ملائمة للمناسبة المعروفة المرتبطة بالزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وإذا ما نظرنا من زاوية ثقافية فسنرى بأن السائد الثقافي كان سياسياً في حقبة الستينيات، فولادة طفل بمثل هذا اليوم تعني الكثير بالنسبة للأسر الجنوبية التي كانت مناصرة للزعيم، حتى أن مواليد الستينيات غلب عليهم اسم (كريم)، فالسياق الثقافي كان مؤدلجاً على مستوىً شعبي، فهي مرحلة تحول استقطبت عامة الناس الحالمين بوضع جديد، قد يلمح النص لذلك، لكن القصد الأساسي هو تاريخ ميلاد الشاعر المتزامن مع تلك المناسبة التي لم يقف عندها النص، ولم يُعنَ بمصادفتها، بل ذهب إلى مصادفة غامضة وغرائبيَّة، هي أن يكون أخاً وأباً وابناً وزوجاً، كما لو أنه يستعيد حكاية اليتيم الدارجة في كناياتنا اليوميَّة، كون اليتيم يصبح أخاً وأباً لأخوته وابنا وبمثابة رجل البيت بالنسبة لأمه، أي يلعب دور الأب/ الزوج، للتعويض عن فقدان الأب الحقيقي، وإذا ما توغلنا باتجاه التحليل النفسي على وفق مدرسة فرويد تحديداً، فسنجد بأنَّ النص يقيم تناصاً واعياً ومقصوداً مع ما يسمى بـ (عقدة أوديب) المأخوذة عن الأسطورة الإغريقية للملك أوديب الذي قتل أباه وتزوج أمه، ولو افترضنا بأنّها تمثلات غير مقصودة فهي جزء من الخزين المعرفي المؤثر في البناء النفسي للشاعر الذي استحضرته غرائبية سيرته الذاتية، وفي المجموعة العديد من الإشارات الدالة على استحضار المرأة من خلال تلك العلاقة الإشكاليَّة.

إنَّ هذه المجموعة التي يشير عنوانها مباشرة إلى حياة بنيت على خطأ، اتخذت بقصد أو من دون قصد من التزاوج بين السيرة الذاتية للشاعر والسيرة الخفية لأوديب رؤية نفسية تعبر عن فداحة ما عاناه الشاعر وما عاصره من أحداث دامية خلال الحروب المتعاقبة، ويمكننا تأويل زاوية أخرى إذا ما ربطنا بين الأسطورة والواقع من جهة، وبين السيرة الشخصية للشاعر والواقع من جهة أخرى، فأوديب ابن لملك وملكة مدينة طيبة، انتظرا وقتاً طويلاً من دون إنجاب، وحين سألا كاهن أبولو في دلفي، تنبّأ بأن الملك لايوس إذا أنجب ولداً فسيقوم بقتله ويتزوج أمه، لذلك حين ولد أوديب أرسلوه بيد أحد الرعاة ليلقي به بين الجبال، لكن الراعي عطف عليه فأعطاه لراعٍ آخر من مدينة كورينت، وكان عليها ملك وملكة لم ينجبا طفلا أيضاً، ويقدر لنبوءة الكاهن أن تتحقق وينتشر الطاعون والخراب على إثر ذلك، والنص يحدد تاريخ (14 تموز) أشبه بالولادة المشؤومة لأوديب/ الشاعر الذي ستشب معه الحروب ويعم الخراب، وقد يذهب تأويلنا إلى أن هذا التأريخ هو بمثابة قتل الأب (الملك) والزواج غير الشرعي بالأم (السلطة)، ومن ثم تدهور أوضاع البلاد التي تواصلت فيها الصراعات الدموية بين الساسة والأحزاب وصولاً إلى الحروب والمجاعات والمقابر الجماعية والقحط، وكأن لعنة أوديب التي حلت بمدينة طيبة حلت ببلادنا منذ ذلك 

التاريخ.