إيغون شيل.. أجساد التعبيريَّة الشائهة

ثقافة 2023/04/05
...

محمد طهمازي

“ثمّ لوحات تتحدانا لكي نبذل كل جهدنا الذائقي الفني للفصل بين بنيتها الشكليّة ومحتواها المعنوي وقيمها الجمالية..” 

كان إيغون شيل أحد أبرز فناني التعبيرية النمساوية، الذي تميّز بأسلوب رسمه المبتكر، وتبنّيه لتقنية التشويه التصويري، وتحديه الجريء للمعايير التقليدية للجمال. تعد لوحاته وبورتريهاته الذاتية، واستكشافاته اللاذعة لنفسية جليساته وحياتهن الجنسية، من بين أبرز الأعمال الفنية في القرن العشرين.

سطعت شهرة شيل, الذي كان غزير الإنتاج, إذ أنتج نحو ثلاثة آلاف عمل فني. اعتبر الرسم سمة أساسية لحياته، أتاحت له التعبير عن ذاته بشكل مذهل خلال حياته الفنية القصيرة وعمره القصير، ليس فقط بأعماله المشحونة نفسيًّا وعاطفيًّا، ولكن بسيرته الذاتية المثيرة للاهتمام: أسلوب حياته الفاحش الذي تميز بالإباحية ثم الموت المأساوي المبكر بالأنفلونزا وهو لم يتعدّ الثامنة والعشرين، بعد ثلاثة أيام من وفاة زوجته الحامل، وفي وقت كان فيه على وشك تحقيق النجاح التجاري الذي استعصى عليه لسنين طويلة.

ساعدت لوحات شيل وبورتريهاته الذاتية على إعادة الحيوية لكلا النوعين بشكل غير مسبوق من المباشرة العاطفية والجنسية واستخدام التشويه التقني للشكل بدلاً عن المفاهيم المعروفة للجمال. غالبا ما كان شيل يرسم نفسه أو المقربين منه، وكان في العادة يُظهر موديلاته عاريات وعراة، في زوايا كاشفة ومحرجة, ينفذها بمنظور عين الطائر (المنظور الفوقي) خالية من الإضافات. استخدم شيل في بعض الأحيان الزخارف التقليدية، مما أعطى لوحاته الشخصية استعارات مكثفة عن الحالة البشرية.

اعتمد أسلوب شيل على الخطوط ولمسات الفرشاة. وكان الرسام غوستاف كليمت صاحب التأثير الرئيس في أسلوب شيل وتطوره، إذ قام بدور الصديق والمعلم. في الوقت الذي ورث فيه شيل تركيز كليمت على الصور المثيرة للشكل الأنثوي وشارك شهية كليمت الجنسية التي لا تشبع، فإن شيل قد طوّر مفاهيم التعبيرية المكثفة بعاطفيته القلقة, وبحثه في الحياة النفسية والعاطفية لموديلاته، وعارض في بعض النواحي أسلوب معلمه المستوحى من فن الآرت نوفو، إذ كان كليمت يفضل أن تكون اللوحة أكثر إشراقا وتألقا بأسطحها المزخرفة.

إن صور شيل الذاتية غير عادية ليس فقط لتكراره رسم نفسه، ولكن للطريقة التي فعل بها ذلك: رسمه لنفسه مثير، إذ يظهر غالبًا عاريًا، في أوضاع إباحية, ليس لنفسه فقط بل في موديلاته المذكرة التي تظهر بطريقة لا مثيل لها في تاريخ الفن الغربي, حيث يبتكر شيل رؤية مكثفة ومخيفة تقريبا لنفسه: هزيل ، بعيون حمراء متوهجة ، وساقين مشوهتين وبلا أقدام، وجسده مكشوف بالكامل وبوضع ملتوٍ ليعطي تأثيرا راقصًا، وكان لتلك الحركات تأثير مهم في الرقص الحديث.. ولكن وجهه مخفي جزئيا، ربما يشير إلى شعور بالخجل. كان يعبر عن قلقه من خلال الخطوط والأكف النحيلة ولحم الجسم الذي يبدو عليه التآكل والتعرض لظروف قاسية. كما في البورتريه الذاتي مع نبات الفانوس الصيني وهي اللوحة الذاتية الأشهر لشيل والأكثر تعبيرًا . يحدق فيها شيل مباشرة في المشاهد، وتشير ملامحه إلى الثقة في مواهبه الفنية. على الرغم من أن شيل شوهها بدرجة أقل  من الصور الذاتية الأخرى، إلا أن اللوحة ترفض إضفاء الطابع المثالي على موضوعها، إذ تتميز بالندوب والخطوط الأخرى المميزة لأسلوب شيل في الرسم. وكان قد رسم معها لوحة لحبيبته والي نوزيل بيد أن النازيين سرقوها من منزل يهودي نمساوي لتعود ثانية لفيينا في العام 2010. 

أما لوحة النسّاك فإنشاؤها مزدوج نادر، وهي من بين أشهر الأعمال التعبيرية لشيل، وتظهره برفقة كليمت واقفين، كأنهما شخص واحد. بقدر ما كان الرجلان قريبين، وعلى الرغم من كل أوجه التشابه بينهما، فقد أمضى شيل معظم حياته الفنية في السعي للتحرر من تأثير كليمت. في النساك، يرتدي كلا الرجلين قفطانا أسود طويلا مميزا، وهو ثوب اشتهر بارتدائه كليمت، وقد رسمها ربما تكريما له. لم يكن شيل أبدا متواضعًا، فقد وضع كليمت خلفه، متواريا كأنه أعمى، كما لو أن شيل امتص حياته. يستحضر شكل الناسك أيضا مفهوم شيل الوجودي للفنان كشخصية موجودة على هامش المجتمع.

أما لوحة الموت والعذراء فهي من أكثر أعمال شيل تعقيدًا ووجعًا، حيث تُظهِر الشخصية الأنثوية، الهزيلة والممزقة، تتشبث بشخصية الموت الذكورية، بينما تحيط بها مناظر طبيعية شبه سوريالية ممزقة بنفس القدر. يجمع شيل في هذا التكوين بين الشخصي والمجازي من خلال التحول إلى موضوع مشتق من مفهوم القرون الوسطى لرقصة الموت التي وصلت إلى ذروتها في القرن الخامس عشر في الفن الألماني. رسم “الموت والبكر” في الوقت الذي انفصل فيه عن عشيقته والي نوزيل ، وقبل عدة أشهر من ارتباطه بعشيقته الجديدة، إديث هارمز، ويبدو أنها تنقل هذا الانفصال على أنه موت للحب الحقيقي. ومن المثير للاهتمام أن الطريقة التي يتعامل بها شيل مع ملابس شخصياته ومحيطها المجرد ترجعنا إلى لوحات كليمت، الذي وضع أيضا موضوعاته في بيئات لا يمكن فك شفرتها.