ما لا يُكتَب

ثقافة 2023/04/05
...

أحمد عبد الحسين

أعدتُ قراءة كتاب “قلب يحترق” لـ”جان ماري غوستاف لوكليزيو”؛ مجموعة قصص فيها، كما في كلّ أعمال هذا الكاتب ـ الشاعر ذي الاسم الطويل، سردٌ كثيرٌ ساحرٌ ودفّاقٌ عن لا شيء تقريباً!

لا حكايات هنا بل وقائع صغرى هامشيَّة لا تصلح ـ عند سواه ـ لأنْ تكون مادة للانشغال بها أو كتابة شيء عنها أو التمتمة بها.

كلُّ ما يكتبه لوكليزيو، إذا أعدناه إلى أصله الوقائعيّ، لا يعدو كونه جملة واحدة. روايته “صحراء” يمكن إيجازها بجملة وحيدة “فتاة بدوّية مراهقة تريد الهرب من الصحراء”. لكنّ هذه الجملة استغرقت مئات الصفحات لتقال بالكلام الذي لا يستطيع اجتراحه إلا لوكليزيو. بذات “البساطة” يمكن اختصار نصه العبقريّ “الوجد المادي”. فهو لا شيء سوى سؤال: “أين كنتُ وماذا كنتُ قبل أنْ أولد، بل قبل أنْ يُخلق الخلق؟” لكنَّه نصٌّ سائحٌ في شعرٍ وفكرٍ يمتزجان لينشئا وقائع أخرى داخليَّة أعمق وأشدّ ماديَّة في ذات الوقت مما يحدث في العالم الخارجيّ.

في “قلب يحترق” قصة قصيرة اسمها “البحث عن المغامرة”، لا شيء فيها سوى بنتٍ مراهقة “كلّ أبطال لوكليزو مراهقون وربما أكتب عن دوافع ذلك الأمر لاحقاً” تدخل المدينة وهي تفكّر بالأقوام الرُحّل”. ليس إلا هذه المفارقة بين الشخص في مكانه “المدينة الصاخبة” والمكان الآخر العميق “الصحراء والبحر والأدغال” في أعماق الفتاة. وكم يبدو أنَّ الأحداث والوقائع التي يسردها لوكليزيو ليست “عن” فتاة بل هي في الحقيقة “في” الفتاة، فيها، في خيالها بل في أحشائها لأنّ ما يحدث هناك ماديٌّ وله حضوره الأشدّ وطأة مما يحدث خارجاً، أو بتعبيره في “الوجد الماديّ” “إن هذا الوجود الداخليّ حاضر وله مادته ويملأ كلّ شيء”.

كيف يمكن لكاتبٍ ما، أنْ يأتي بكلّ هذا الكلام الكثير عن لا شيء من دون أنْ يعرّضَ نفسه لخطر أنْ يهوي هو وكتابته في إنشاءٍ مملٍّ وتداعٍ أجوف لا يسفر عن أمرٍ ذي قيمة؟ بضعة كتّاب وشعراء يفعلون ذلك بتلقائيَّة لا يمكن إلا أنْ أحسدهم عليها. من أين لهم أنْ يجعلوا مما لا يمكن الحديث عنه مطوّلاً؛ مادة لحديثٍ يطول؟ وبأية قدرةٍ جعلوا ما لا يُقال عنه شيء؛ سبباً لقول كلّ شيء؟

تسعفني، وأنا أتذكر “الوجد الماديّ” و”صحراء” و”البحث عن المغامرة” فكرة تتلخص بأنَّ السرّ في هذه القدرة العجائبيَّة على بسط وتفصيل ما لا يقال، قد كشفه النفريّ بقوله في “المواقف والمخاطبات” (إنْ لم تشهد ما لا ينقال تَشَتَّتَ بما ينقال).

قبل التدوين، قبل أنْ تجلسَ على كرسيّ الكتابة، قبل أنْ تمسكَ القلم أو تضع أصابعك على الكيبورد، قبل كلّ ذلك يتحتّم عليك أنْ تشهدَ لا الأشياء التي تروم الكتابة عنها، بل تلك الأشياء التي لا يمكنك أنْ تكتبها. عليك أنْ تدركَ ما لا يُكتَب، ففيه، في ما لا يقال وما لا يدوّن ينابيعُ أقوالٍ جوهريَّة عظيمة.

اعرفْ ما لا تستطيع قوله لتستطيعَ أنْ تقول الكثير الكثير.