دعوة إلى السليمانيَّة

ثقافة 2023/04/05
...

لؤي حمزة عباس

كانت السماء ملبّدةً بغيوم رماديَّة كثيفة سرعان ما يتبدّل لونها وتتفكك، والشوارع، تحتها، مبللة بمطر النهار الناعم، أجمل هدايا آذار، السفر إلى مؤتمر مولانا خالد النقشبندي في السليمانيَّة، مع طالب عبد العزيز وعلي عبّاس خفيف، اليوم في الخامسة مساءً. ضحًى كتبت لطالب على الواتس، داعياً إياه للمجيء إلى البيت، نشرب القهوة ثم نتوجّه إلى المطار.

ردَّ متسائلاً:

ـ منو ياخذنا؟

أجبته:

ـ نشوف مؤمّل، وإذا عنده شغل ناخذ تكسي.

ـ طيب، سأكون عندك قبل الثالثة عصراً.

وختمها بأيقونة فتاة بصريَّة الملامح، تشبه إحدى الصديقات، ترفع إحدى كفيها، بإصبعين مفرودين، إلى جبهتها، وقد كُتب تحتها: أحلى تحيَّة.

في نحو الثالثة، كنت على رصيف الشارع القريب من المنزل مع مؤمّل وصديقه عبّاس، ننتظر طالب في سيّارة عبّاس العالية، رباعيَّة الدفع. نزلت من السيّارة واتصلت به، مؤكّداً أنني أنتظر على الرصيف، أعدت العنوان عليه وبتأنٍ حدّدت موقع الشارع، حيث أقف، مع أنها ليست المرّة الأولى التي يأتي فيها إلى البيت، لكنه يظل بحاجة لمن يذكّره بالعنوان، أو يقوده إليه. انتظرت أن يفعل ما يفعله كلَّ مرة، يسلّم هاتفه لسائق التكسي فأملي عليه، لكنه رنَّ بعد دقائق ليخبرني أنه قرب المول، مقابل حلويات شيريني، سألته ضاحكاً:

ـ شوداك للجبيلة؟

ولم أنتظر الجواب، ركبت السيارة وتوجّهنا نحوه.

كان يقف على الرصيف، وقد بدا أصغر سناً في جوّ الظهيرة البارد، شعره الأبيض مصفّف بعناية ووجهه لامع حليق، عيناه على السيّارات المارّة ويداه في جيبي سترته، وقد وضع حقيبته الصغيرة بجانبه، توقّفنا أمامه، كانت عيناه تتعجبان لرؤيتي في صدر السيارة العالية. نزل مؤمّل وصديقه، سلّما عليه وحمل أحدهما الحقيبة، فتح الباب وصعد إلى المقعد الخلفي، جلس مؤمّل إلى جانبه معالجاً حرجه بالانشغال بهاتفه، فيما تولّى عبّاس القيادة. قدّمته للشابين طالبي الهندسة، وقدّمته إليهما، وقد حرصت، خلال ذلك، على ذكر قصيدة النثر العراقيَّة، ونظرت نحوهما لأرى وقع الجملة الغريبة عليهما، وقد نظرا نحوي مستفهمين!

في المطار، لم يستغرق جلوسنا على كراسي الألمنيوم الباردة طويلاً، سرعان ما نادى رجال الأمن ذوو البزّات الزرق على ركاب العراقيَّة المتوجّهة إلى السليمانيَّة، فتوجّهنا نحو بوابة التفتيش، أدهشتني قلّة مَنْ تحرّكوا معنا وسألت نفسي إن كانت الطائرة ستطير بهذا العدد، وضعت حقيبتي على أسطوانات الجهاز الرفيعة التي تُصدر أصوات احتكاك سريع مع كلِّ دورة، لحظة غابت الحقيبة في ظلام الجهاز التفتُّ نحو بوابة المطار، كان علي عبّاس يخطو إلى الداخل وخلفه ينغلق باب الزجاج الكبير. 

شغلتني تفاصيل السفر، ولم أفكّر في تأثير الجو المتقلّب في الرحلة، ولا أظنّ طالباً وعلياً فكّرا، لكنَّ جلوسنا الطويل بعد تسليم الحقائب ولّد القلق في نفوسنا، اتصل علي بأصدقائه في السليمانيَّة أو اتصلوا به، لم أعد أذكر، فأخبرنا بأنَّ الأجواء في تركيا أخّرت الطائرة العراقيَّة القادمة إلى السليمانيَّة، وهي نفسها الطائرة التي ستقلّ مسافري السليمانيَّة إلى البصرة ثم تحملنا في طريق عودتها، نظرت إلى طالب وكان حديث علي عن طريق الطائرة الطويل قد أطفأ بريق ملامحه، لعلّه يفكر مثلي بزلازل تركيا ويستعيد بعض مشاهدها، ولعله يتساءل إن كانت الزلازل ستستقبلنا في السليمانيَّة، هي، على العموم، صفيحة أرضيَّة، ولا أحد يعرف مزاج الحجر، لم ينقذني مما أنا فيه سوى صوت أم تميم وقد جاءني عبر الهاتف، أخبرتها على الفور، بأننا ما زلنا في المطار بعد تأخّر الطائرة أكثر من ساعتين، صمتت قليلاً كمن تلتقط أنفاسها، ثم قالت:

ـ اشرب شاي حتى لا تدوخ.

بعد أن أنهيت المكالمة، سأل علي وهو ينهض:

ـ تشربون شاي؟

كأنه سمع أم تميم، نهض طالب وبقيت في مكاني، أنظر نحو مطعم الصالة الواسع المغلق بعتمته العميقة، وأتأمل، على البعد، معروضات السوق الحرّة، أعاد علي سؤاله:

ـ تشرب شاي؟

ـ لا، شكراً..

في العادة، لا أفضّل الشاي خارج المنزل، فهو غالباً شاي الأكياس الورقيَّة الذي أحسّه انتهاكاً لخصوصيَّة الشاي التي تجعله جزءاً من روح الأماكن التي أحتسيه فيها، داكن الحمرة مثل عين الديك برائحة تضوع، وخيط مرارة خفيف يمنحه مذاقاً لا يُنسى، وهو وحده من يجسّد، في ذهني، فكرة الشاي، ونموذجه شاي أبي داود في مقهى حسن عجمي المشبعة بروائح السنوات البغداديَّة، منذ زياراتي الأولى للمقهى في الثمانينيات تشكّل في نفسي مقياس الشاي، وكلما زرت مدينة عراقيَّة، ناهيك عن المدن العربيَّة التي تختلف في تذوّق الشاي وتتباين في إعداده، تجلّى ميزان أبي داود لقياس جودة شايها، وهو مقياس صعب التحقق، غالباً ما تهاوت أمامه شايات مدننا. امتلأت الصالة، على الفور، بأصوات فوج من المسافرين كبار السنّ، كأنها صادرة عن جهاز تسجيل ضغط فجأة، ثم ملؤوا الصالة وقد تدلّت على ظهر كل منهم قطعة قماش صفراء كُتب عليها اسم مكتب الحج والعمرة ورقم هاتفه، مشهدهم بدشاديش الرجال البيض وعباءات النسوة السود والحقائب الصغيرة المعلّقة على أكتافهم، وأكياس النايلون المرصوصة في أيدي معظمهم، أحالت الصالة، في وقت قياسي، إلى سوق خيريَّة، ولم يمرّ وقت طويل حتى هدأت أصواتهم وقد توزعوا بين مجموعات صغيرة في أركان الصالة، وبدؤوا بتناول طعامهم.

من محل إلى آخر، تجوّلنا في السوق الحرّة، كان الموظفون الشباب الأنيقون يخرجون من سباتهم حالما يروننا متوجهين نحوهم، نتوقف أمام الرفوف ونعاين المعروضات، عدنا إلى كراسيّنا بعد أن مررنا على المحال كلها وتناقشنا في أنواع البضائع المعروضة وأسعارها، لنغرق في خدر الانتظار، كتبت رسالة قصيرة على الواتس للصديقة سهام بدوي، الروائيَّة والشاعرة المصريَّة صاحبة (مقام التخلي)، التي تواصل زيارتها للمغرب، وتنعم بأجواء مقامات الصالحين، وفي ذهني أطياف زيارتنا معاً لمقام المرسي أبي العباس في الإسكندرية، في الساعة العاشرة والربع نودي علينا، عبر مكبّرة الصوت هذه المرّة، عند صالة البوابة، شغلنا معظم الوقت في الحديث عن تفاصيل اللوحة الكبيرة التي غطّت أحد الجدران، ذات النوافذ والقباب والطيور التي، على كثرتها، لم تمنح المشهد دلالة أو جمالاً. 

قلت وقد لمحت تاريخ اللوحة:

ـ خير وبركة أنهم لم يحشروا فيها مدفعاً أو دبابة، إنها منفذة عام 1986!

 بدلاً من السادسة مساءً، حطّت الطائرة في مطار السليمانيَّة، في الحادية عشرة مساءً، خمس ساعات تبدّدت في الانتظار الثقيل زادت تعبنا في سفرة داخليَّة قصيرة، بعد تسلّم الحقائب سلّمنا بطاقاتنا الوطنيَّة لرجل مدكوك القامة يرتدي زياً مدنياً، ولم يمر وقت طويل حتى نودي علينا للتوجه إلى غرفة المعلومات، جلس كلٌّ منّا مقابل موظف شاب، وضع الموظفون بطاقاتنا أمامهم وبدؤوا أسئلتهم المعتادة عبر الحاجز الزجاجي، اسمك، رقم هاتفك، عنوانك في البصرة، ثم طُلب منّا النظر مباشرةً إلى الكاميرات، رفعت رأسي ونظرت، نبهني الموظف إلى ضرورة خلع النظارة، دقائق وتسلمت الفيزا، دفعها الموظف عبر الحاجز بأصابعه النظيفة البيضاء، نظرت نحوها، وهي على المكتب ما تزال، كانت تحمل أغرب صورة شخصيَّة في حياتي، سحبتها سريعاً ثم شكرته وخرجت لأقف في الممر، بانتظار الصديقين. فكّرت بدواء الضغط، وسألت نفسي إن كنت متأكداً من وضعه في الحقيبة، سحبت الحقيبة جانباً وفتحتها، في هذه الأثناء كان طالب قد تسلّم الفيزا ووقف خلفي متسائلاً:

ـ ها، شنسيت؟

ـ دوا الضغط.

أغلقت الحقيبة، ورأيت علي يسير نحونا:

ـ كلشي تمام؟

سأل وهو ينقر بأصابعه على الفيزا، أجابه طالب:

ـ لؤي ناسي الدوا.

ـ عندك صورته؟

سألني كمن يلقي حبل إنقاذ، فأجبته:

ـ نعم، في العادة أحمل صور الدوا.

في الطريق إلى الفندق، طلبت من السائق أن يأخذنا لأقرب صيدليَّة، فاستمر يقود السيارة بسرعة، ويتجاوز السيارات بمرونة حتى تصوّرته لم يسمع طلبي، استدار إلى طريق ضيق شبه معتم، ثم استدار إلى اليمين وتوقف بمحاذاة الرصيف، رفعت رأسي عن صور الهاتف ورأيت أمامي (ده رمانخانه) مضاءة بالأخضر الخفيف. لم يستغرق الأمر سوى دقائق، عدت إلى السيارة وفي ذهني وجه الصيدلانيَّة الفتاة، فكّرت أنها في عمر تميم الذي يرتدي معطفه الأبيض وينهمك بخلع أسنان مرضاه، ربما تكبره بعام واحد أو عامين، وضعت يدي في جيب السترة حالما سألني طالب إن كنت قد عثرت على الدواء، قلت نعم، ثم أضفت: يمكنك العثور على دواء الضغط في كلِّ مكان. 

تجاوزنا فندق (أبو سناء) بلافتته الحمراء المضاءة، وباستدارة قليلة كنّا في نزلة شارع سرجنار، تقدّم التكسي ثم صعد على الرصيف المسفلت وتوقف أمام بوابة الفندق الزجاجيَّة الدوارة. 

في نحو السابعة والنصف اتصلت بطالب وكان جاهزاً، فنزلنا لتناول الفطور، في مطعم الفندق الذي تتوسطه منضدة عرضيَّة طويلة بأطعمة متنوعة، فواكه طازجة ومجففة، وأجبان وخضراوات، وشرائح لحوم حمراء وبيضاء، وأواني عسل ومربيات مع الدبس والراشي، فيما يقطعه أفقياً مطبخ صغير تقف وسطه طاهية رشيقة لبقة في منتصف العمر، يشدُّ شعرها منديل سمائي، سلّمت وطلبت بيض عيون، أجابت على الفور من عيني، وسرت نحو المائدة التي سبقني طالب إليها، وقد وضع أمامه طبقاً وضع فوقه صحنين صغيرين مربعين، في أحدهما دبس وفي الآخر راشي، وإلى جانبهما قطع خبز، حدّثني فور جلوسي عن هوس طفولته بالدبس والراشي، وكان أهله يرسلونه في الشتاء، صباح كلِّ يوم، إلى الدكان القريب ليشتريهما، يرى صاحب الدكان يغرفهما من صفيحتين تتكرّر عليهما صورة راعٍ منشغلٍ بالعزف على المزمار، ومن حوله خراف قليلة آمنة، يملأ الطاسة الصغيرة التي يراقب الطفل، خلال عودته إلى المنزل، امتزاج الدبس والراشي على سطحها، مأخوذاً بما يتكون من أشكال غريبة ساحرة.

قال:

ـ أطيب فطور..

فعدت إلى المنضدة، حملت صحناً كبيراً وضعت فوقه صحناً صغيراً واحداً، وبملعقة مستديرة غرفت الدبس وصببته في الصحن الصغير، ثم غرفت الراشي وصببته عليه، في الطريق إلى طالب، نظرت للأشكال الغريبة بطيئة التحوّل، على سطح الخليط. 

ـ أما أنا فلا أستغني عن الشاي..

قلت وأنا أضع الصحن على المائدة، نظر طالب إلى الصحن مبتسماً، وعدت إلى المنضدة المجاورة للجدار، أخذتني الدهشة وأنا أقرأ على إحدى البطاقات (شاي كوردي)، إنها المرّة الأولى التي يصادفني فيها شاي كردي، سألت نفسي إن كانت الجملة تعني أنَّ شاي السليمانيَّة ليس عراقياً، وأنه، بالنتيجة، لا يخضع لمقياس شاي أبي داود، ومع هواجسي صببت في كوب قليلاً منه، وكان عراقي اللون والرائحة. ظهراً وصلتني رسالة على الواتس من سهام، تخبرني فيها أنها زارت سيدي أحمد التيجاني في فاس، وسيدي ابن مشيش في شفشاون، رحلة روحيَّة يا لؤي، والواحد راجع بجناحي الرهبة والرجاء، والصفاء يغسل القلب والروح.

 أكتب لها:

ـ يقين القلوب جنّة.

 فتردّ مبتهجة:

ـ الله الله الله، جنّة اليقين ونعيمها باب شك جديد، دائرة لا تنتهي يا صديقي وأنت في مقام الحيرة، أجمل مقامات التصوّف. 

أقرأ رسالتها مبتهجاً، وأرسل لها صورة مع علي وطالب التقطناها صحبة نساء المؤتمر بأزيائهن الملونة، كتبت أسفلها: 

ـ مؤتمر السليمانيَّة حول شيخ الطريقة، مولانا خالد النقشبندي.

 ختمت بإشارة للنساء اللواتي وقفن حولنا، مورقات بثياب ملوّنة: 

ـ إذا كانت المرأة زهرة، فالمرأة الكرديَّة بستان زهور.