عالم ضحيَّة {اللاتاريخ}

ثقافة 2023/04/05
...

يقظان التقي 


“من أنا  ومن أنت “ ،تعليق حول باول تسيلان وعناصره الـتاويلية الشعرية ألاخلاقية لما يجري من احداث . قراءة  في الحرب وكسور الواقع . كما قراءة  في النتاج الادبي، الذي جسد زمن الشغف والمعرفة والموقف والتفجروالتجدد في اجتراحات المعنى العميق. هي هجرة داخل الهجرة ، وجنون داخل الجنون ، والحرب حين تقضي على مساحة كثيرة من الاشياء ، وتطرح اسئلة عميقة في الأجتماع والأقتصاد والسياسة ، والالتزام ، والارتباط بالحرية والناس .

الشعر كجزء من المشهد وكسوره، وما يتلاءم مع الوقت ، مع عدم الخوف من اعلان الفشل على حد تعبير مارتن هايدغر(1889 - 1976)، الذي اعتبر كتاب تسيلان  “اعلى منزلة” من كتاب “ الحقيقة والمنهج” .

في  عالم الأزمات والحروب  تذهب ألامورالى الذخيرة الشعرية والفكرية ، دنوا تاويليا في مخاطبة الاحداث / مقربا ظاهرتيا / لما تؤول له الاوضاع . 

ولد باول تسيلان في بوكوفينا  سنة 1920، ومات منتحرا في باريس سنة 1970. راح ابوه ضحية النازية في العام 1941، فزمانه ضحية . اما مكان ولادته فيصفه هو نفسه  بانه “ ضحية اللاتاريخ “ .  فقد ولد في بوكوفينا المتحوّلة من الامبراطورية النمساوية الهنغارية الى رومانيا ، ثم الى الاتحاد السوفياتي ، ثم أخيرا الى اوكرانيا . اسم تسيلان نفسه متحوّل. بعد الحاق مدينته بالاتحاد السوفياتي  وبعد الاحتلال الالماني لها في العام 1940 والعام 1941 وبعد الحرب ومعسكرات السخرة و ترحيل أبويه . ومع عودة الروس في العام 1944، غادر تسيلان الى بوخارست ثمّ الى فينا . لكن استقراره النهائي كان في باريس العام 1944 . 

الاحداث والحروب والعنف تقتل الابداعات ، تحبطها، تشوهها ، او تحوّل مساراتها .  قد تفجرها، من نوع “ الهجرة اللى الشمال “ رائعة الطيب صالح(1929 - 2009 ) ، اوالهجرة في تشكلها المستمرالحديث (التوقعات والتحاليل تشير الى احتمال ان يرتفع عدد اللاجئيين الاوكرانيين الى 11 مليونا في حال استمرار الحرب . ارقام توسعية تضاف الى  40 مليون لاجئ ونازح نتيجة لازمات الشرق الاوسط في تقرير المنظمة الدولية للهجرة والاسكوا ) . بهذا المعنى ، تصبح العوامل الخارجية ( العارضة ) مثال الحرب الروسية على اوكرانيا،  المكوّن الاساس لمسرح احداث جديد. فتصبح الحرب هي” السلطة الخارجية “.

الحرب اشكالية غير منهجية ، دفعت الباحث المنهجي  جورج ماتوري الى القول في كتابه “ المكان الانساني “ :” ان عالمنا اليوم يتميز بوجود مكان معاصر، مشروطا بوجود الاخر” .هذا لا لا يسمح بازالة الغموض عن الطابع المسرحي للحياة السياسية. لا يمكن للعدالة ان تتدفقّ من القانون، الذي هو” بشري للغاية “ في تمزقات الظرف الانساني في تعبير ا لفيزيائي والفيلسوف الفرنسي  باسكال بليز(1623 - 1662 ). الموت في اللامكان .والنظام الدولي عاجزعن ايقاف الحرب حفاضا للحياة الانسانية . “عندما تقع اجمل ازهار الشجرلا يعّد الموت رمزا للخلاص”، وسط تناقص وتضارب فرص السلام والعدالة . قلة معنيّة بحيوات الناس والقتل والهجرات وانفجار اشياء الناس في الاحياء المتروكة لقدرها في “ بوتشا “ ، كما في “ حي التضامن في دمشق “ او “ دارفور “ السودانية، .  في المسجد الاقصى تحت وطأة الالة العكسرية الاسرائيلية في الاحتلال المعنوي والمادي   .. يتزامن ذلك مع تصريح الكاتب الانكليزي “ دانيال دي فو “ (1660 - 1731)، باستحالة  وجود الاشياء التي تحقق الهوّية والتميز . يرتبط الامر بعد ذلك بعرض الشيئ عند فلوبير(1821 - 1880) وبلزاك(1799 - 1850)  وزولا (1840 - 1902) ، بالدقة في وصف الاشياء الواقعية . شكلها .فترة الكسروالترميم .

الحرب تفجر الكائن ازاء الواقع المتراكم على ذاته  كالموتى . بل هي الحرب صيحة في  وجه الميت في حياتنا . لا مسؤولية اخلاقية عن حرب تتحول عبثية  في اوكرانيا تخضع لارادات السلطات والمنظمات والشركات المتحكمة باوضاع العالم . أكثر ، ما عادت تنفع التقسيمات الانتقائية ازاء ارتكابات وابادات  شملت دولا عديدة في الشرق الاوسط وافريقيا. والقاتل والمعذب والظالم والطاعن هو المكدس في اجسامنا وضمائرنا نحن والاوربيون معا .

بالعودة الى تسيلان ميلان “ من أنا  ومن أنت “ . قصائده سماها “ بلورة النفس “ ، محاولة لصياغة أفكارافضل للعالم . وكما يقول غوته(1749 - 1832) “ في يد الشاعر النقية تجتمع الماْء “ . سؤال تسيلان يخاطب “ الاختلاف الضبابي” . محاولة سماع  صوت الشجرات التي أكلتها  النيران من النوع الموجود في  اوكرانيا .  “ اليأس الذي ترحب فيه رقعة الثلج “ . “الثلج الذي يجعل كل شيئ متشابها “ . “فلقد كان في اوكرانيا ثمة نمو مديد ، ولجوج مثل صراخ طفل “. لكنها الحرب ترفض اقامة فرصة للسلام والهدوء . والشعر يمكن ان يكون تناوب الانفاس في غير مكان  .

يقود تسيلان في خطابه “ خط الزوال “  على ارض متالفة بحلم لا ياتي . ارض الخبز التي تقطع في السرّي. اصابع تسيلان تشير الى المكان الذي “ يوقظ رعدا  في فمنا  ، بل افواه العالم الذين يعانون في حرب سلة القمح “ .فكرة تسيلان تتوافق مع نصيحة جون اركويلا احد الاساتذة البارزين للاستراتيجية الكبرى في اميركا للرئيس الروسي بوتين “ اجنح للسلم ..” ، وهوما علق عليه توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز ، من أن اول قاعدة بخصوص الحفر، هي انك اذا وقعت في احداها توقف عن مزيد من الحفر . مثلما “ يكشف الخلد ممرات حجره بالتراب التي تتراكم نتيجة الحفر”. ذلك يعني تحديد التجربة الانسانية الاساسية التي تجعل من الضروري فهم “ الانا “ و “ أنت “، بوصف الموت “ يثقل على الوجود كله .  “حامض الحرب، حامض اسماء  واشياء تتساقط وهو شيئ يجب تصحيحه “ . 

 عالم بوهيمي على صعوبة التواصل في عص الكفر والعزلة والقلق في مرثيات دانتي ودينو لريلكه(1875 - 1926) . هو مجرد فعل امل محض . ما العمل ؟.  يقترح علينا  الفيلسوف النمساوي اوتو وينينغر(1880 - 1903) ، أن نفهم “ شمال المستقبل “ . يعني الخروج من هاوية الموت الذي يحدث لجيران في عالم واحد  يتقاتلان . وعلى الرغم الحميمة التي يتبادلانها ، وعلى وعي بالمسافة القريبة بينهما . هي حرب الروس على الروس في اوكرانيا . تلاقيهما كان يمكن ان يضع حدا  لكل شيئ  ويحلّ ازمة الاوهام التي لا تحصى / ما يحصى هو المجموع الكلي للزمن المعيش . لا أرقام الموتى المتحالفة مع قدرالصورالشاملة. الصور المتغيرة على ارض رمادية وضد قدرها . نتذكرمع ريلكه  صورة “ غضب متحجر لفظه بركان قديم “. مشهد موسكفا الغارقة مع بحارتها، اكثر من مجرد سفينة   ، تحول الى شيئ غير واقعي في عالم معاصر. كحطام سفينة  الرسام غاسبار ديفيد  فريدريتش . حطام سفينة من جليد البلطيق التي تعني تحطيم جميع الامال على خط الزوال .